المسألة الثامنة : دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة  ، وذلك لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد  صلى الله عليه وسلم ، وهو المراد بقوله : ( ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم    ) وأن يمكن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ؛ لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم أنه لا نبي بعده لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم أن بعد الرسول الاستخلاف الذي هذا وصفه إنما كان في أيام أبي بكر  وعمر  وعثمان  ؛ لأن في أيامهم كانت الفتوح العظيمة ، وحصل التمكين وظهور الدين والأمن ، ولم يحصل   [ ص: 23 ] ذلك في أيام علي  رضي الله عنه ؛ لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي حصول الخلافة لكل من آمن وعمل صالحا ولم يكن الأمر كذلك . نزلنا عنه ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : ( ليستخلفنهم    ) هو أنه تعالى يسكنهم الأرض ويمكنهم من التصرف لا أن المراد منه خلافة الله تعالى ، ومما يدل عليه قوله : ( كما استخلف الذين من قبلهم    ) واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الإمامة ، فوجب أن يكون الأمر في حقهم أيضا كذلك . نزلنا عنه ، لكن ههنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله لأن من مذهبكم أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدا ، وروي عن علي  عليه السلام أنه قال : أترككم كما ترككم رسول الله . نزلنا عنه ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه عليا  عليه السلام ، والواحد قد يعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، كقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر    ) [القدر : 1] وقال في حق علي  عليه السلام : ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون    ) [المائدة : 55] نزلنا عنه ، ولكن نحمله على الأئمة الإثنى عشر . 
والجواب عن الأول : أن كلمة "من" للتبعيض فقوله : ( منكم    ) يدل على أن المراد بهذا الخطاب بعضهم . 
وعن الثاني : أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، فالمذكور ههنا في معرض البشارة لا بد وأن يكون مغايرا له . 
وأما قوله تعالى : ( كما استخلف الذين من قبلهم    ) فالذين كانوا قبلهم كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة ، وتارة بسبب الإمامة ، والخلافة حاصلة في الصورتين . 
وعن الثالث : أنه وإن كان من مذهبنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدا بالتعيين ، ولكنه قد استخلف بذكر الوصف والأمر بالاختيار فلا يمتنع في هؤلاء الأئمة الأربعة أنه تعالى يستخلفهم وأن الرسول استخلفهم ، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر    : يا خليفة رسول الله ، فالذي قيل إنه عليه السلام لم يستخلف ، أريد به على وجه التعيين ، وإذا قيل استخلف فالمراد على طريقة الوصف والأمر . 
وعن الرابع : أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز وهو خلاف الأصل . 
وعن الخامس : أنه باطل لوجهين : 
أحدهما : قوله تعالى : ( منكم    ) يدل على أن هذا الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين . 
الثاني : أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والنفاذ في العالم ، ولم يوجد ذلك فيه فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة ، وبطل قول الرافضة  الطاعنين على أبي بكر  وعمر  وعثمان  ، وعلى بطلان قول الخوارج  الطاعنين على عثمان  وعلي  ، ولنرجع إلى التفسير . 
أما قوله : ( ليستخلفنهم    ) فلقائل أن يقول : أين القسم المتلقى باللام والنون في ( ليستخلفنهم    ) ؟ قلنا : هو محذوف تقديره : وعدهم الله ليستخلفنهم ، أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم  فتلقي بما يتلقى به القسم كأنه قال : أقسم الله ليستخلفنهم . 
أما قوله : ( كما استخلف الذين من قبلهم    ) يعني كما استخلف هارون  ويوشع  وداود  وسليمان    . وتقدير النظم : ليستخلفنهم استخلافا كاستخلاف من قبلهم من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، وقرئ "كما استخلف" بضم التاء وكسر اللام ، وقرئ بالفتح . 
أما قوله تعالى : ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم    ) فالمعنى أنه يثبت لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهو الإسلام ، وقرأ ابن كثير  وعاصم  ويعقوب    "وليبدلنهم" من الإبدال بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، وقد   [ ص: 24 ] ذكرنا الفرق بينهما في قوله تعالى : ( بدلناهم جلودا غيرها    ) [النساء : 56] . 
أما قوله : ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا    ) ففيه دلالة على أن الذين عناهم لا يتغيرون عن عبادة الله تعالى إلى الشرك  ، وقال الزجاج    : يجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات    ) في حال عبادتهم وإخلاصهم لله ، ليفعلن بهم كيت وكيت ، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم . 
أما قوله : ( ومن كفر بعد ذلك    ) أي جحد حق هذه النعم ( فأولئك هم الفاسقون    ) أي العاصون . 
				
						
						
