المسألة الرابعة : في قوله : ( دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما    ) وجهان : 
الوجه الأول : أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله : ( لجنبه    ) في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما . 
فإن قالوا : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟ 
قلنا : معناه : إن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر  ، سواء كان مضطجعا أو قاعدا أو قائما . 
والوجه الثاني : أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديدا لأحوال الضر ، والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما دعانا ، وهو قول الزجاج    . والأول أصح ؛ لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر ، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء ، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب .   [ ص: 43 ] 
المسألة الخامسة : في قوله : ( مر    ) وجوه : 
الأول : المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد . 
الثاني : مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به . 
المسألة السادسة : قوله تعالى : ( كأن لم يدعنا إلى ضر مسه    ) تقديره : كأنه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ، ونظيره قوله تعالى : ( كأن لم يلبثوا    ) [ يونس : 45 ] قال الحسن    : نسي ما دعا الله فيه ، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه : 
المسألة السابعة : قال صاحب " النظم " : قوله : ( وإذا مس الإنسان    ) (إذا) موضوعة للمستقبل ، ثم قال : ( فلما كشفنا    ) وهذا للماضي ، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى ، وهكذا يكون في المستقبل . فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي ، وأقول : البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى ، وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر  ، وجبل أيضا على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو ، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع ، وإظهار الخضوع والانقياد ، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه ، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران . فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته ، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم . 
المسألة الثامنة : في قوله تعالى : ( كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون    ) أبحاث : 
البحث الأول : أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان ، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم . 
البحث الثاني : في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحانه الكافر مسرفا    . وفيه وجوه : 
الوجه الأول : قال أبو بكر الأصم    : الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما ؛ أما في النفس فلأنه جعلها عبدا للوثن ، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . 
الوجه الثاني : قال القاضي : إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء ، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضا عن ذكر الله متغافلا عنه غير مشتغل بشكره ، كان مسرفا في أمر دينه متجاوزا للحد في الغفلة عنه ، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفا في الإنفاق فكذلك يكون مسرفا فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح ، إذا تجاوز الحد فيه . 
الوجه الثالث : وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت ، أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس  ، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة . والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة ، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة ، فوجب أن يكون من المسرفين . 
البحث الثالث : الكاف في قوله تعالى : ( كذلك    ) للتشبيه . والمعنى : كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكر زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات . 
				
						
						
