( وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين  إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين    ) 
قوله تعالى: ( وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين  إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين    ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة ، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب ، والمذنبين بالعذاب ، ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين    . فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ، ومع كونه غنيا فإن رحمته عامة كاملة ، ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار ، إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال : ( وربك الغني ذو الرحمة    ) ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية  ، فنفتقر هاهنا إلى بيان أمرين : الأول : إلى بيان كونه تعالى غنيا . فنقول : إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه؛ لأنه لو كان محتاجا لكان مستكملا بذلك الفعل ، والمستكمل بغيره ناقص بذاته ، وهو على الله محال ، وأيضا فكل إيجاب أو سلب يفرض ، فإن كانت ذاته كافية في تحققه ، وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته . وإن لم تكن كافية ، فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه ، فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه ، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء ، فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير ، والموقوف على الغير ممكن لذاته ، فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال . فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق . 
واعلم أن قوله : ( وربك الغني    ) يفيد الحصر ، معناه : أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك ؛ لأن واجب الوجود لذاته واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج ، فثبت أنه لا غني إلا هو . فثبت بهذا   [ ص: 164 ] البرهان القاطع صحة قوله سبحانه : ( وربك الغني    ) وأما إثبات أنه ( ذو الرحمة    ) فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات، إما بحسب الأحوال الجسمانية ، وإما بحسب الأحوال الروحانية . فثبت بالبرهان الذي ذكرناه أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته ، وإنما يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينه وتخليقه . فثبت أن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات فهو من الحق سبحانه  ، وبإيجاده وتكوينه . ثم إن الاستقراء دل على أن الخير غالب على الشر فإن المريض وإن كان كثيرا فالصحيح أكثر منه ، والجائع وإن كان كثيرا فالشبعان أكثر منه ، والأعمى وإن كان كثيرا ، إلا أن البصير أكثر منه . فثبت أنه لا بد من الاعتراف بحصول الرحمة والراحة ، وثبت أن الخير أغلب من الشر والألم والآفة، وثبت أن مبدأ تلك الراحات والخيرات بأسرها هو الله تعالى، فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو: ( ذو الرحمة    ) . 
واعلم أن قوله : ( وربك الغني ذو الرحمة    ) يفيد الحصر ، فإن معناه : أنه لا رحمة إلا منه ، والأمر كذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والواجب لذاته واحد فكل ما سواه فهو منه ، والرحمة داخلة فيما سواه، فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق ، فثبت بهذا البرهان صحة هذا الحصر فثبت أنه لا غني إلا هو . فثبت أنه لا رحيم إلا هو . 
فإن قال قائل : فكيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الولد والمولى على عبده  ، وكذلك سائر أنواع الرحمة ؟ 
فالجواب : أن كلها عند التحقيق من الله، ويدل عليه وجوه : 
الأول : لولا أنه تعالى ألقى في قلب هذا الرحيم داعية الرحمة ، لما أقدم على الرحمة ، فلما كان موجد تلك الداعية هو الله ، كان الرحيم هو الله . ألا ترى أن الإنسان قد يكون شديد الغضب على إنسان قاسي القلب عليه ، ثم ينقلب رءوفا رحيما عطوفا؟ فانقلابه من الحالة الأولى إلى الثانية ليس إلا بانقلاب تلك الدواعي ، فثبت أن مقلب القلوب هو الله تعالى بالبرهان قطعا للتسلسل ، وبالقرآن وهو قوله : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم    ) [ الأنعام : 110 ] فثبت أنه لا رحمة إلا من الله    . 
والثاني : هب أن ذلك الرحيم أعطى الطعام والثوب والذهب ، ولكن لا صحة للمزاج والتمكن من الانتفاع بتلك الأشياء ، وإلا فكيف الانتفاع ؟ فالذي أعطى صحة المزاج والقدرة والمكنة هو الرحيم في الحقيقة . 
والثالث : أن كل من أعطى غيره شيئا فهو إنما يعطي لطلب عوض ، وهو إما الثناء في الدنيا ، أو الثواب في الآخرة ، أو دفع الرقة الجنسية عن القلب ، وهو تعالى يعطي لا لغرض أصلا ، فكان تعالى هو الرحيم الكريم ، فثبت بهذه البراهين اليقينية القطعية صحة قوله سبحانه وتعالى : ( وربك الغني ذو الرحمة    ) بمعنى أنه لا غني ولا رحيم إلا هو ، فإذا ثبت أنه غني عن الكل ، ثبت أنه لا يستكمل بطاعات المطيعين ولا ينتقص بمعاصي المذنبين ، وإذا ثبت أنه ذو الرحمة ثبت أنه ما رتب العذاب على الذنوب ، ولا الثواب على الطاعات ، إلا لأجل الرحمة والفضل والكرم والجود والإحسان ، كما قال في آية أخرى : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها    ) [ الإسراء : 7 ] فهذا البيان الإجمالي كاف في هذا الباب ، وأما تفصيل تلك الحالة وشرحها على البيان التام ، فمما لا يليق بهذا الموضع . 
المسألة الثانية : أما المعتزلة  فقالوا : هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح ، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده . أما المطلوب الأول فقال : تقريره أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم   [ ص: 165 ] بكونه غنيا عنه ، وكل من كان كذلك فإنه يتعالى عن فعل القبيح . 
أما المقدمة الأولى، فتقريرها إنما يتم بمجموع مقدمات ثلاثة : 
أولها : أن في الحوادث ما يكون قبيحا ، نحو: الظلم ، والسفه ، والكذب ، والغيبة، وهذه المقدمة غير مذكورة في الآية لغاية ظهورها . 
وثانيها : كونه تعالى عالما بالمعلومات ، وإليه الإشارة بقوله قبل هذه الآية : ( وما ربك بغافل عما يعملون    ) . 
وثالثها : كونه تعالى غنيا عن الحاجات وإليه الإشارة بقوله : ( وربك الغني    ) وإذا ثبت مجموع هذه المقدمات الثلاثة ، ثبت أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيا عنها ، فإذا ثبت هذا امتنع كونه فاعلا لها؛ لأن المقدم على فعل القبيح إنما يقدم عليه إما لجهله بكونه قبيحا ، وإما لاحتياجه ، فإذا كان عالما بالكل امتنع كونه جاهلا بقبح القبائح . وإذا كان غنيا عن الكل امتنع كونه محتاجا إلى فعل القبائح ، وذلك يدل على أنه تعالى منزه عن فعل القبائح متعال عنها ، فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحدا ، فلما كلف عبيده الأفعال الشاقة وجب أن يثيبهم عليها ، ولما رتب العقاب والعذاب على فعل المعاصي وجب أن يكون عادلا فيها ، فبهذا الطريق ثبت كونه تعالى عادلا في الكل . 
فإن قال قائل : هب أن بهذا الطريق انتفى الظلم عنه تعالى ، فما الفائدة في التكليف ؟ 
فالجواب : أن التكليف إحسان ورحمة  على ما هو مقرر في " كتب الكلام " فقوله : ( وربك الغني    ) إشارة إلى المقام الأول وقوله : ( ذو الرحمة    ) إشارة إلى المقام الثاني . فهذا تقرير الدلائل التي استنبطها طوائف العقلاء من هذه الآية على صحة قولهم . 
واعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم ، وسمعت الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر بن الحسين  رحمه الله قال : سمعت الشيخ أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري  ، يقول : نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة ، ونظر المعتزلة  على تعظيم الله في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي ، فإذا تأملت علمت أن أحدا لم يصف الله إلا بالتعظيم والإجلال والتقديس والتنزيه ، ولكن منهم من أخطأ ومنهم من أصاب ، ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة وهي قوله : ( وربك الغني ذو الرحمة    )   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					