[ ص: 66 ] 
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون    ) . 
قوله تعالى : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون    ) . 
اعلم أنه تعالى لما أبطل بالدليل قول من قال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، ذكر بعده أن القرآن كتاب الله  ، أنزله الله تعالى على محمد  عليه الصلاة والسلام . 
واعلم أن قوله : ( وهذا ) إشارة إلى القرآن ، وأخبر عنه بأنه كتاب ، وتفسير الكتاب قد تقدم في أول سورة البقرة ، ثم وصفه بصفات كثيرة : 
الصفة الأولى : قوله : ( أنزلناه ) والمقصود أن يعلم أنه من عند الله تعالى لا من عند الرسول ؛ لأنه لا يبعد أن يخص الله محمدا  عليه الصلاة والسلام بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب ألفاظ القرآن على هذه الصفة من الفصاحة ، فبين تعالى أنه ليس الأمر على هذه الصفة ، وأنه تعالى هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل  عليه السلام . 
الصفة الثانية : قوله تعالى : ( مبارك ) قال أهل المعاني كتاب مبارك  أي كثير خيره ، دائم بركته ومنفعته ، يبشر بالثواب والمغفرة ، ويزجر عن القبيح والمعصية ، وأقول : العلوم إما نظرية ، وإما عملية ، أما العلوم النظرية ، فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية ، فالمطلوب ، إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلوب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب ، ثم قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة    . 
يقول مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي    : وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية ، فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم . 
الصفة الثالثة : قوله : ( مصدق الذي بين يديه    ) فالمراد كونه مصدقا لما قبله من الكتب والأمر في الحقيقة كذلك ؛ لأن الموجود في سائر الكتب الإلهية إما علم الأصول ، وإما علم الفروع . 
أما علوم الأصول : فيمتنع وقوع التفاوت فيه بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة ، فوجب القطع بأن المذكور في القرآن موافق ومطابق لما في التوراة والزبور والإنجيل وسائر الكتب الإلهية . 
وأما علم الفروع : فقد كانت الكتب الإلهية المتقدمة على القرآن مشتملة على البشارة بمقدم محمد  عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل في تلك الكتب أن التكاليف الموجودة فيها ، إنما   [ ص: 67 ] تبقى إلى وقت ظهور محمد  عليه الصلاة والسلام ، وأما بعد ظهور شرعه فإنها تصير منسوخة ، فثبت أن تلك الكتب دلت على ثبوت تلك الأحكام على هذا الوجه ، والقرآن مطابق لهذا المعنى وموافق ، فثبت كون القرآن مصدقا لكل الكتب الإلهية في جملة علم الأصول والفروع    . 
الصفة الرابعة : قوله تعالى : ( ولتنذر أم القرى ومن حولها    ) وهاهنا أبحاث : 
البحث الأول : اتفقوا على أن هاهنا محذوفا ، والتقدير : ولتنذر أهل أم القرى    . واتفقوا على أن أم القرى  هي مكة  ، واختلفوا في السبب الذي لأجله سميت مكة  بهذا الاسم . فقال  ابن عباس    : سميت بذلك ؛ لأن الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها ، وقال أبو بكر الأصم    : سميت بذلك لأنها قبلة أهل الدنيا ، فصارت هي كالأصل وسائر البلاد والقرى تابعة لها ، وأيضا من أصول عبادات أهل الدنيا الحج ، وهو إنما يحصل في تلك البلدة ، فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم ، وأيضا فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحج ، لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ، ولا شك أن الكسب والتجارة من أصول المعيشة ، فلهذا السبب سميت مكة  أم القرى    . وقيل : إنما سميت مكة أم القرى  لأن الكعبة  أول بيت وضع للناس  ، وقيل أيضا : إن مكة  أول بلدة سكنت في الأرض . 
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( ومن حولها    ) دخل فيه سائر البلدان والقرى . 
والبحث الثاني : زعمت طائفة من اليهود  أن محمدا  عليه الصلاة والسلام كان رسولا إلى العرب فقط . واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية ، وقالوا : إنه تعالى بين أنه إنما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكة  وإلى القرى المحيطة بها ، والمراد منها جزيرة العرب  ، ولو كان مبعوثا إلى كل العالمين لكان التقييد بقوله : ( لتنذر أم القرى ومن حولها    ) باطلا . 
والجواب : أن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على انتفاء الحكم فيما سواها إلا بدلالة المفهوم وهي ضعيفة ، لا سيما وقد ثبت بالتواتر الظاهر ، المقطوع به من دين محمد  عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعي كونه رسولا إلى كل العالمين ، وأيضا قوله : ( ومن حولها    ) يتناول جميع البلاد والقرى المحيطة بها ، وبهذا التقدير : فيدخل فيه جميع بلاد العالم ، والله أعلم . 
البحث الثالث : قرأ عاصم  في رواية أبي بكر    : " لينذر " بالياء ، جعل الكتاب هو المنذر ؛ لأن فيه إنذارا ، ألا ترى أنه قال : " لينذروا به " أي بالكتاب ، وقال : " وأنذر به " وقال : " إنما أنذركم بالوحي    " فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على سبيل الاتساع ، وأما الباقون : فإنهم قرءوا " ولتنذر " بالتاء خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو . قال تعالى : ( إنما أنت منذر    ) [ الرعد : 7 ] ، وقال : ( وأنذر به الذين يخافون    ) [ الأنعام : 51 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					