( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون    ) 
( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون    ) 
اعلم أن إبراهيم    - عليه السلام - لما أورد عليهم الحجة المذكورة ، فالقوم أوردوا عليه حججا على صحة أقوالهم ، منها أنهم تمسكوا بالتقليد كقولهم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة    ) [ الزخرف : 23 ] وكقولهم للرسول - عليه السلام - : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب    ) [ ص : 5 ] ومنها : أنهم خوفوه بأنك لما طعنت في إلهية هذه الأصنام وقعت من جهة هذه الأصنام في الآفات والبليات ، ونظيره ما حكاه الله تعالى في قصة قوم هود    : ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء    ) [ هود : 54 ] فذكروا هذا الجنس من الكلام مع إبراهيم    - عليه السلام - . 
فأجاب الله عن حجتهم بقوله : ( قال أتحاجوني في الله وقد هداني    ) ، يعني لما ثبت بالدليل الموجب للهداية واليقين صحة قولي ، فكيف يلتفت إلى حجتكم العليلة ، وكلماتكم الباطلة . 
وأجاب عن حجتهم الثانية وهي أنهم خوفوه بالأصنام بقوله : ( ولا أخاف ما تشركون به    ) لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر  ، والأصنام جمادات لا تقدر ولا قدرة لها على النفع والضر ، فكيف يحصل الخوف منها ؟ 
فإن قيل : لا شك أن للطلسمات آثارا مخصوصة ، فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة ؟ 
قلنا : الطلسم يرجع حاصله إلى تأثيرات الكواكب ، وقد دللنا على أن قوى الكواكب على التأثيرات إنما يحصل من خلق الله تعالى فيكون الرجاء والخوف في الحقيقة ليس إلا من الله تعالى    . 
وأما قوله : ( إلا أن يشاء ربي    ) ففيه وجوه : 
أحدها : إلا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي . 
وثانيها : إلا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عني بعض عادات نعمه . 
وثالثها : إلا أن يشاء ربي فأخاف ما تشركون به بأن يحييها ويمكنها من ضري ونفعي ، ويقدرها على إيصال الخير والشر إلي . 
واللفظ يحتمل كل هذه الوجوه ، وحاصل الأمر أنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره ، والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام ، فذكر إبراهيم    - عليه السلام - ذلك حتى لو أنه حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب . 
 [ ص: 49 ] ثم قال - عليه السلام - : ( وسع ربي كل شيء علما    ) يعني أنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة ، فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك ؛ لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام . 
ثم قال : ( أفلا تتذكرون    ) والمعنى : أفلا تتذكرون أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله تعالى  لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب ، والسعي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العقاب . والله أعلم . 
المسألة الثانية : قرأ نافع  وابن عامر    "أتحاجوني" خفيفة النون على حذف أحد النونين ، والباقون على التشديد على الإدغام . 
وأما قوله : ( وقد هداني    ) قرأ نافع  وابن عامر    ( هداني ) بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف . 
المسألة الثالثة : أن إبراهيم    - عليه السلام - حاجهم في الله وهو قوله : ( لا أحب الآفلين    ) والقوم أيضا حاجوه في الله ، وهو قوله تعالى خبرا عنهم : ( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله    ) فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ ، وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم    - عليه السلام    - ، وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه    ) وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله : ( قال أتحاجوني في الله    ) ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق  توجب أعظم أنواع المدح والثناء ، والمحاجة في تقرير الدين الباطل  توجب أعظم أنواع الذم والزجر . 
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانونا معتبرا ، فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل ، وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق . والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					