ثم قال تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله    ) . 
وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : الأول : أن فيها إضمارا ، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين ، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه ، وهو قوله : ( فكلوا مما أمسكن عليكم    ) . 
الثاني : أن يقال إن قوله : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين    )  ابتداء كلام ، وخبره هو قوله : ( فكلوا مما أمسكن عليكم    ) وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار . 
المسألة الثانية : في الجوارح قولان : 
أحدهما : أنها الكواسب من الطير والسباع ، واحدها جارحة ، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب ، قال تعالى : ( الذين اجترحوا السيئات    ) [الجاثية : 21] أي : اكتسبوا ، وقالوا : إن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل . 
المسألة الثالثة : نقل عن ابن عمر  والضحاك  والسدي  ، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته  لم يجز أكله ، وتمسكوا بقوله تعالى : ( مكلبين ) قالوا : لأن التخصيص يدل على كون هذا الحكم مخصوصا به ، وزعم الجمهور أن قوله : ( وما علمتم من الجوارح    ) يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به ، كالفهد والسباع من الطير : مثل الشاهين والباشق والعقاب ، قال الليث    : سئل  مجاهد  عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع ، فقال : هذه كلها جوارح   . وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى : ( مكلبين ) من وجوه : 
الأول : أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها ، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه . 
الثاني : أن كل سبع فإنه يسمى كلبا ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد   " . 
الثالث : أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال فلان : كلب بكذا إذا كان حريصا عليه . 
والرابع : هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب  ، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره ، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز ، وهو غير مذكور في الآية والله أعلم . 
المسألة الرابعة : دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح  إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة ، لأنه تعالى قال : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله    ) وقال - صلى الله عليه وسلم -  لعدي بن حاتم    : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل   " ، قال  الشافعي    - رحمه الله - : والكلب لا يصير معلما إلا عند أمور  ، وهي إذا أرسل استرسل ، وإذا أخذ حبس ولا يأكل ، وإذا دعاه أجابه ، وإذا أراده لم يفر منه ، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ، ولم يذكر - رحمه الله - فيه حدا معينا ، بل قال : إنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به ، قال : لأن الاسم إذا لم يكن معلوما من النص أو الإجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف ، وهو قول  أبي حنيفة    - رحمه الله - في أظهر الروايات . وقال  الحسن البصري    - رحمه الله - : يصير معلما بمرة واحدة ، وعن  أبي حنيفة    - رحمه الله - في رواية أخرى أنه يصير معلما بتكرير ذلك مرتين ، وهو قول أحمد    - رحمه الله - ، وعن أبي يوسف  ومحمد    - رحمهما الله - : أنه يصير معلما بثلاث مرات . 
 [ ص: 114 ] المسألة الخامسة : الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد ، فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم ، ومؤدب صاحب التأديب . قال صاحب " الكشاف " : وقرئ مكلبين بالتخفيف ، وأفعل وفعل يشتركان كثيرا . 
المسألة السادسة : انتصاب مكلبين على الحال من " علمتم " . 
فإن قيل : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم ؟ 
قلنا : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب " وتعلمونهن " حال ثانية أو استئناف ، والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم . 
				
						
						
