الباب الثالث 
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة  ، وفيه مسائل 
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : ( الحمد لله    ) فكأن سائلا يقول : الحمد لله منبئ عن أمرين : أحدهما : وجود الإله ، والثاني : كونه مستحقا للحمد ، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق للحمد ؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين ، فأجاب عن السؤال الأول بقوله : ( رب العالمين    ) وأجاب عن السؤال الثاني بقوله : ( الرحمن الرحيم  مالك يوم الدين    ) أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، لا جائز أن يقال : العلم بوجود الإله ضروري ؛ لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة ، فبقي أن يكون العلم نظريا ، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السماوات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره ، وموجود يوجده ، ومرب يربيه ، ومبق يبقيه ، فكان قوله : ( رب العالمين    ) إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم    . 
ثم فيه لطائف : اللطيفة الأولى : أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله ، فقوله : ( رب العالمين    ) إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه ، محتاج في وجوده إلى إيجاده ، وفي بقائه إلى إبقائه ، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر ، كما قال تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم    ) [ الإسراء : 44 ] . 
اللطيفة الثانية : أنه تعالى لم يقل : الحمد لله خالق العالمين ، بل قال : ( الحمد لله رب العالمين    ) والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها ، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا ؟ فقال قوم : الشيء حال بقائه يستغني عن السبب ، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه ، فقوله : ( رب العالمين    ) تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها ، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه ، أما   [ ص: 150 ] افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف ، فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه . 
اللطيفة الثالثة : أن هذه السورة مسماة بأم القرآن  فوجب كونها كالأصل والمعدن ، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه ، فقوله : ( رب العالمين    ) تنبيه على أن كل موجود سواه ، فإنه دليل على إلهيته . 
ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله : ( الحمد لله    ) فأولها : سورة الأنعام وهو قوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور    ) [ الأنعام : 1 ] واعلم أن المذكور هاهنا قسم من أقسام قوله : ( رب العالمين    ) لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله ، والسماوات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله ، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة ، وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السماوات والأرض ؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين ، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى ، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه ، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة . 
وثانيها : سورة الكهف ، وهو قوله : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب    ) والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف ، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات ، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط ، وقوله في أول سورة الفاتحة : ( رب العالمين    ) إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين ، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة . 
وثالثها : سورة سبأ ، وهو قوله : ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض    ) [ سبأ : 1 ] فبين في أول سورة الأنعام أن السماوات والأرض له ، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له ، وهذا أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : ( الحمد لله رب العالمين    ) . 
ورابعها : قوله : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض    ) [ فاطر : 1 ] والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقا لها ، والخلق هو التقدير ، والمذكور في هذه السورة كونه فاطرا لها ومحدثا لذواتها ، وهذا غير الأول إلا أنه أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : ( الحمد لله رب العالمين    ) . 
ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقا للسماوات والأرض ذكر كونه جاعلا للظلمات والنور ، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلا الملائكة رسلا ، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السماوات والأرض جعل الأنوار والظلمات ، وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات ، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله : ( الحمد لله رب العالمين    ) فهذا هو التنبيه على أن قوله : ( رب العالمين    ) يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم . 
				
						
						
