ذكر أهل الصفة  
قال الشيخ : قد ذكرنا بعض أحوال فريق من نساك الصحابة وعبادهم ، وأقوال جماعة من أئمة الصحابة وأعلامهم من المشتهرين بالمعبود وذكره ، المشغوفين بالفرد ووده . الذين جعلوا للعارفين والعاملين قدوة ، وعلى المفتونين بالدنيا والمقبلين عليها حجة . ونذكر الآن مستعينين بالله شأن أهل الصفة  وأخلاقهم وأحوالهم وتسمية من سمي لنا اسمه بالأسانيد المشهورة ، والشواهد المذكورة . 
وهم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض ، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض . وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء ، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء . لا يأوون إلى أهل ولا مال ،   [ ص: 338 ] ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال ، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا ، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبى . كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم ، هم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، ولم يأسوا على ما فاتهم ، ولم يفرحوا بما أتاهم . حماهم مليكهم عن التمتع بالدنيا والتبسيط فيها ; لكيلا يبغوا ولا يطغوا ، رفضوا الحزن على ما فات من ذهاب وشتات ، والفرح بصاحب نسب إلى بلى ورفات . 
حدثنا أبي ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن  ، ثنا أحمد بن سعيد  ، ثنا  عبد الله بن وهب  ، أخبرني أبو هانئ  ، قال : سمعت  عمرو بن حريث  وغيره يقولون : إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة    : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض    ) ذلك بأنهم قالوا : لو أن لنا ، فتمنوا الدنيا   . رواه حيوة  ، عن أبي هانئ    . 
حدثنا سليمان بن أحمد  ، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني  ، ثنا سعيد بن سليمان  ، عن  عبد الله بن المبارك  ، عن حيوة بن شريح  ، عن أبي هانئ  ، قال : سمعت  عمرو بن حريث  ، يقول : نزلت هذه الآية في أهل الصفة    : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض    )  قال : لأنهم تمنوا الدنيا   . 
قال الشيخ : زوى الله عز وجل عنهم الدنيا ، وقبضها إبقاء عليهم وصونا لهم ; لئلا يطغوا ، فصاروا في حماه محفوظين من الأثقال ، ومحروسين من الأشغال ، لا تذلهم الأموال ، ولا تتغير عليهم الأحوال . 
حدثنا  أبو عمرو بن حمدان  ، ثنا الحسين بن سفيان  ، ثنا عبيد الله بن معاذ  ، ثنا معتمر بن سليمان  ، قال : قال أبي ، ثنا  أبو عثمان النهدي  أنه حدثه  عبد الرحمن بن أبي بكر    : أن أصحاب الصفة   كانوا أناسا فقراء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ، بسادس ، أو كما قال . وأن أبا بكر  جاء بثلاثة ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة   " . هذا حديث صحيح متفق عليه . 
حدثنا سليمان  ، ثنا علي بن عبد العزيز  ، ثنا أبو نعيم  ، ثنا  عمر بن ذر  ، ثنا مجاهد  أن  أبا هريرة  ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبا هر   [ ص: 339 ] فقلت : لبيك يا رسول الله قال : الحق أهل الصفة  فادعهم ، قال : وأهل الصفة  أضياف الإسلام  ، لا يأوون على أهل ولا مال ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها   . صحيح متفق عليه . 
حدثنا أبو عمر بن حمدان  ، ثنا الحسين بن سفيان  ، ثنا  وهب بن بقية  ، ثنا  خالد بن عبد الله  ، عن  داود بن أبي هند  ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي  ، عن طلحة بن عمرو  ، قال : كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة  عريف نزل عليه ، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة   ، قال : وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلا وكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مد من تمر بين رجلين   . 
حدثنا سليمان بن أحمد  ، ثنا محمد بن النضر الأزدي  ، ثنا  موسى بن داود  ، ثنا شريك  ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل  ، عن علي بن حسين  ، عن أبي رافع  ، قال : لما ولدت فاطمة  حسينا  قالت : يا رسول الله ألا أعق عن ابني؟ قال : لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره ورقا  ، أو فضة ، على الأوفاض والمساكين يعني بالأوفاض : أهل الصفة    . 
حدثنا محمد بن الحسن  ، ثنا  بشر بن موسى  ، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ  ، ثنا حيوة  ، أخبرني أبو هانئ  أن أبا علي الجنبي  حدثه أنه سمع  فضالة بن عبيد  يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة  ، وهم أصحاب الصفة  ، حتى يقول الأعراب : إن هؤلاء مجانين   . رواه ابن وهب  ، عن ابن هانئ    . 
حدثنا محمد بن محمد بن إسحاق  ، ثنا  زكريا الساجي  ، ثنا أحمد بن عبد الرحمن  ، ثنا عمي  عبد الله بن وهب  ، عن  فضيل بن غزوان  ، عن أبي حازم  ، عن  أبي هريرة  ، قال : كان من أهل الصفة  سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء    . 
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر  ، ثنا محمد بن عبد الله بن رستة  ، ثنا أبو أيوب المقرئ  ، ثنا جرير  ، عن عطاء  ، عن  الشعبي  ، عن  أبي هريرة  قال : كنت في الصفة ، فبعث إلينا النبي صلى   [ ص: 340 ] الله عليه وسلم عجوة فكنا نقرن الثنتين من الجوع  ، ويقول لأصحابه : إني قد قرنت فاقرنوا   . 
حدثنا أبو محمد بن حيان  ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلم  ، ثنا هناد بن السري  ، ثنا أبو معاوية  ، عن هشام  ، عن الحسن  ، قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصفة  فقال : " كيف أصبحتم " ، قالوا : بخير  ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم اليوم خير ، وإذا غدي على أحدكم بجفنة وريح بأخرى ، وستر أحدكم بيته كما تستر الكعبة    " ، فقالوا : يا رسول الله نصيب ذلك ونحن على ديننا؟ قال : "نعم " ، قالوا : فنحن يومئذ خير نتصدق ونعتق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بل أنتم اليوم خير ، إنكم إذا أصبتموها تحاسدتم وتقاطعتم وتباغضتم   " . كذا رواه معاوية  مرسلا . 
حدثنا عبد الله بن محمد  ، ثنا أبو يحيى الرازي  ، ثنا هناد بن السري  ، ثنا  يونس بن بكير  ، ثنا سنان بن سيسن الحنفي  ، حدثني الحسن  ، قال : بنيت صفة لضعفاء المسلمين ، فجعل المسلمون يوغلون إليها ما استطاعوا من خير  ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فيقول : السلام عليكم يا أهل الصفة  ، فيقولون : وعليك السلام يا رسول الله ، فيقول : كيف أصبحتم ، فيقولون : بخير يا رسول الله ، فيقول : أنتم اليوم خير من يوم يغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويغدو في حلة ويروح في أخرى ، وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة  ، فقال : نحن يومئذ خير يعطينا الله تعالى فنشكر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أنتم اليوم خير   " . 
قال الشيخ رحمه الله : وكان عدد قاطني الصفة يختلف على حسب اختلاف الأوقات والأحوال ، فربما تفرق عنها وانتقص طارقوها من الغرباء والقادمين فيقل عددهم ، وربما يجتمع فيها واردوها من الوراد والوفود فينضم إليهم فيكثرون ، غير أن الظاهر من أحوالهم ، والمشهور من أخبارهم غلبة الفقر عليهم ، وإيثارهم القلة واختيارهم لها . فلم يجتمع لهم ثوبان ، ولا حضرهم من الأطعمة لونان . يدل على ذلك ما : حدثناه أبو بكر بن مالك  ، ثنا  عبد الله بن أحمد   [ ص: 341 ] بن حنبل  ، حدثني وكيع  ، حدثني  فضيل بن غزوان  ، عن أبي حازم  ، عن  أبي هريرة  ، قال : رأيت سبعين من أهل الصفة  يصلون في ثوب  ، فمنهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من هو أسفل من ذلك ، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته   . 
حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد  ، ثنا إسماعيل بن عبد الله  ، ثنا هشام بن عامر  ، ثنا صدقة بن خالد  ، ثنا  زيد بن واقد  ، حدثني  بسر بن عبيد الله الحضرمي  ، عن واثلة بن الأسقع  ، قال : كنت من أصحاب الصفة  ، وما منا أحد عليه ثوب تام ، وقد اتخذ العرق في جلودنا طوقا من الوسخ والغبار   . 
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر  ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلم  ، ثنا هناد بن السري  ، ثنا أبو أسامة  ، عن  جرير بن حازم  ، عن  محمد بن سيرين  ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قسم ناسا من أهل الصفة  بين ناس من أصحابه  ، فكان الرجل يذهب بالرجل ، والرجل يذهب بالرجلين ، والرجل يذهب بالثلاثة حتى ذكر عشرة ، فكان  سعد بن عبادة  يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين منهم يعشيهم   . 
حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي بكر  ، ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان  ، ثنا أبو نعيم  وحدثنا أبو بكر الطلحي  ، ثنا  عبيد بن غنام  ، واللفظ له ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة  ثنا أبو نعيم  ، عن موسى بن علي  ، قال : سمعت أبي يحدث عن  عقبة بن عامر  ، قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة ، فقال : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحاء  والعقيق  فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم ، فقلنا : يا رسول الله كلنا نحب ذلك ، قال : أولا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله تعالى خير له من ناقتين  ، وثلاث ، وأربع . خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ؟ 
قال الشيخ رحمه الله : فحديث عقبة  يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يردهم عند العوارض الداعية إلى تمني الدنيا والإقبال عليها إلى ما هو أليق بحالهم ، وأصلح لبالهم من الاشتغال بالأذكار ، وما يعود عليهم من منافع   [ ص: 342 ] البيان والأنوار ، ويعصمون به من المهالك والأخطار ، ويستروحون إليه مما يرد من الأماني على الأسرار . 
حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد  ، ثنا أبو إسماعيل الترمذي  ، ثنا يحيى بن بكير  ، ثنا  ابن لهيعة  ، عن  عمارة بن غزية  أن  ربيعة بن أبي عبد الرحمن  أخبره أنه سمع  أنس بن مالك  يقول : أقبل أبو طلحة  يوما ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يقرئ أصحاب الصفة  ، على بطنه فصيل من حجر يقيم به صلبه من الجوع . كان شغلهم تفهم الكتاب وتعلمه ، ونهمتهم الترنم بالخطاب وتردده ، شاهد ذلك ما : حدثناه جعفر بن محمد بن عمرو  ، ثنا أبو حصين الوادعي  ، ثنا يحيى بن عبد الحميد  ، ثنا  حماد بن زيد  ، عن المعلى بن زياد  ، عن العلاء بن بشير  ، عن أبي الصديق الناجي  ، عن  أبي سعيد الخدري  رضي الله تعالى عنه ، قال : أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أناس من ضعفة المسلمين ، ورجل يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا ، ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أحدا منهم وإن بعضهم ليتوارى من بعض من العري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فأدارها شبه الحلقة ، فاستدارت له الحلقة ، فقال : " بم كنتم تراجعون؟ " قالوا : هذا رجل يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا . قال : " فعودوا لما كنتم فيه " ، ثم قال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " ، ثم قال : " ليبشر فقراء المؤمنين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة عام  ، هؤلاء في الجنة ينعمون ، وهؤلاء يحاسبون   " . رواه جعفر بن سليمان  ، عن المعلى بن زياد  بإسناده مثله . ورواه جعفر  أيضا ، عن  ثابت البناني  ، عن سلمان  مرسلا . 
حدثنا أبو بكر بن مالك  ، ثنا  عبد الله بن أحمد بن حنبل  ، حدثني أبي ، ثنا يسار  ، ثنا جعفر ، يعني ابن سليمان    - ثنا  ثابت البناني  ، قال : كان سلمان  في عصابة يذكرون الله عز وجل  ، قال : فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا فقال : ما كنتم تقولون؟ فقلنا : نذكر الله يا رسول الله ، قال : قولوا فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ، ثم   [ ص: 343 ] قال : " الحمد لله جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم   " . رواه مسلمة بن عبد الله  عن عمه ، عن سلمان  مطولا في قصة المؤلفة ، ذكرناه في نظائره في كتاب شرف الفقر . 
قال الشيخ رحمه الله : والمتحققون بالفقر من الصحابة وتابعيهم إلى قيام الساعة أمارة وأعلام الصدق لهم شاهرة ، وبواطنهم بمشاهدة الحق عامرة ; إذ الحق شاهدهم وسائسهم . والرسول صلى الله عليه وسلم سفيرهم ومؤدبهم ، وحق لمن أعرض عن الدنيا وغرورها ، وأقبل على العقبى وحبورها ، فعزفت نفسه عن الزائل الواهي ، ونابذ الزخارف والملاهي ، وشاهد صنع الواحد الباقي ، واستروح روائح المقبل الآتي من دوام الآخرة ونضرتها ، وخلود المجاورة وبهجتها ، وحضور الزيارة وزهرتها ، ومعاينة المعبود ولذتها ، أن يكون بما اختار له المعبود من الفقر راضيا ، وعما اقتطعه منه ساليا ، ولما ندبه إليه ساعيا ، ولخواطر قلبه راعيا ، ليصير في جملة المطهرين ، ويحشر في زمرة الضعفاء والمساكين ، ويقرب مما خص به الأبرار من المقربين ، فيغتنم ساعاته عن مخالطة المخلطين ، ويصون أوقاته عن مسالمة المبطلين ، ويجتهد في معاملة رب العالمين ، مقتديا في جميع أحواله بسيد السفراء والمرسلين . 
كذا حدثناه سليمان بن أحمد  ، ثنا  الحسين بن إسحاق التستري  ، ثنا محمد بن أبي خلف  ، ثنا يحيى بن عباد  ، ثنا محمد بن عثمان الواسطي  ، عن ثابت  ، عن أنس  ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة    . 
قال الشيخ رحمه الله : استوطنوا الصفة فصفوا من الأكدار ، ونقوا من الأغيار ، وعصموا من حظوظ النفوس والأبشار ، وأثبتوا في جملة المصطنع لهم من الأبرار ، فأنزلوا في رياض النعيم ، وسقوا من خالص التسنيم . 
حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان  ، ثنا  عبد الله بن أحمد بن حنبل  ، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير  ، ثنا عمران بن عيينة  ، عن إسماعيل  ، عن أبي صالح    ( ومزاجه من تسنيم    ) قال : هو أشرف شراب أهل الجنة  ، للمقربين صرفا ، وللناس مزاجا   . 
 [ ص: 344 ] قال الشيخ رحمه الله : وأهل الصفة  هم أخيار القبائل والأقطار ، ألبسوا الأنوار . فاستطابوا الأذكار ، واستراحت لهم الأعضاء والأطوار ، واستنارت منهم البواطن والأسرار بما قدح فيها المعبود من الرضا والأخبار ، فأعرضوا عن المشغوفين بما غرهم ، ولهوا عن الجامعين لما ضرهم من الحطام الزائل البائد ، ومسالمة العدو الحاسد ، معتصمين بما حماهم به الواقي الذائد . فاجتزوا من الدنيا بالفلق ، ومن ملبوسها بالخرق ، لم يعدلوا إلى أحد سواه ، ولم يعولوا إلا على محبته ورضاه . رغبت الملائكة في زيارتهم وخلتهم ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على محادثتهم ومجالستهم . 
حدثنا أبو بكر الطلحي  ، ثنا عبيد بن عثام  ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة  ، ثنا أحمد بن المفضل  ، ثنا أسباط بن نصر  ، عن السدي  ، عن أبي سعيد الأزدي  ، عن أبي الكنود  ، عن  خباب بن الأرت    : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه    ) قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي  وعيينة بن حصن الفزاري  فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال  وعمار  وصهيب  وخباب  ، في أناس من الضعفاء المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم فخلوا به ، فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعودا مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا . فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت ، قال : نعم ، قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا ، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم ، ودعا عليا  رضي الله عنه ليكتب ، فلما أراد ذلك ، ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل  عليه السلام ، فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه    ) إلى قوله : ( فتكون من الظالمين    ) ثم ذكر الأقرع  وصاحبه ، فقال : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين    ) . ثم ذكر فقال تعالى : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة    ) . فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ودعانا فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم ، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته ، فكان رسول الله   [ ص: 345 ] صلى الله عليه وسلم يجلس معنا ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا     ) . يقول : لا تعد عينك عنهم تجالس الأشراف : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا    ) . أما الذي أغفل قلبه فهو عيينة بن حصن  والأقرع  ، وأما ( فرطا ) فهلاكا . ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا ، قال : فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ، وإلا صبر أبدا حتى نقوم   . 
رواه عمر بن محمد العنقزي  عن أسباط مثله . 
حدثنا  أبو عمرو بن حمدان  ، ثنا  الحسن بن سفيان  ، ثنا أبو وهب الحراني  ، ثنا سليمان بن عطاء  ، عن مسلمة بن عبد الله  ، عن عمه ، عن  سلمان الفارسي  ، قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن  والأقرع بن حابس  ، وذووهم فقالوا : يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم ، يعنون أبا ذر  وسلمان  وفقراء المسلمين ، وكان عليهم جباب الصوف لم يكن عندهم غيرها ، جلسنا إليك وخالصناك وأخذنا عنك ، أنزل الله عز وجل : ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا  واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه    ) حتى بلغ ( نارا أحاط بهم سرادقها    ) يتهددهم بالنار ، فقام نبي الله يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات   " . 
حدثنا سليمان بن أحمد  ، ثنا علي بن عبد العزيز  ، ثنا أبو حذيفة  ، ثنا  سفيان الثوري  ، عن المقدام بن شريح  ، عن أبيه ، عن  سعد بن أبي وقاص  ، قال : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم  ابن مسعود  ، قال : كنا نستبق إلى النبي ندنو إليه ، فقالت قريش    : تدني هؤلاء دوننا؟ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم هم بشيء ، فنزلت : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه     )   [ ص: 346 ] الآية   . رواه إسرائيل  ، عن المقدام بن شريح  نحوه . 
حدثناه أبو أحمد محمد بن أحمد  ، ثنا عبد الله بن شيرويه  ، ثنا  إسحاق بن راهويه  ، أخبرنا عبيد الله بن موسى  ، ثنا إسرائيل  ، عن المقدام بن شريح الحارثي  ، عن أبيه ، عن  سعد بن أبي وقاص  ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر ، فقال المشركون : اطرد هؤلاء عنك فإنهم ، وإنهم ، قال : فكنت أنا  وابن مسعود  ورجل من هذيل  وبلال  ورجلان نسيت اسمهما ، قال : فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله ، فحدث به نفسه فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه    ) . 
حدثنا محمد بن أحمد  ، ثنا عبد الله بن شيرويه  ، ثنا  إسحاق بن راهويه  ، أخبرنا جرير  ، عن  أشعث بن سوار  ، عن كردوس  ، عن  عبد الله بن مسعود  ، قال : مر الملأ من قريش  على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب  وبلال  وخباب  وعمار  ، ونحوهم وناس من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك . قال : فأنزل الله عز وجل : ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم     ) إلى قوله : ( فتكون من الظالمين    )   . حدثنا عمر بن محمد بن حاتم  ، ثنا محمد بن عبيد الله بن مرزوق  ، ثنا عفان  ، ثنا  حماد بن سلمة  ، ثنا ثابت  ، عن معاوية بن قرة  ، عن عائذ بن عمرو    : أن أبا سفيان  مر بسلمان  وصهيب  وبلال  فقالوا : ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها  ، فقال لهم أبو بكر    : تقولون هذا لشيخ قريش  وسيدها ، ثم أتى النبي ، فأخبره بالذي قالوا : فقال : يا أبا بكر  لعلك أغضبتهم ، والذي نفسي بيده لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ، فرجع إليهم ، فقال : يا إخواني لعلي أغضبتكم؟ فقالوا : لا يا أبا بكر  يغفر الله لك   . 
حدثنا محمد بن عبد الله  ، ثنا عبد المؤمن بن أحمد الجرجاني  ، ثنا الحسين بن علي السمسار  ، ثنا أبو عبد الرحمن المكتب  ، ثنا المسيب بن شريك  ، عن حميد  ، عن أنس  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرفع الله بهذا العلم   [ ص: 347 ] أقواما فيجعلهم قادة يقتدى بهم في الخير  ، وتقتص آثارهم ، وترمق أعمالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم   " . 
حدثنا سليمان بن أحمد  ، ثنا هارون بن ملول  ، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ  ، ثنا  سعيد بن أبي أيوب  ، ثنا معروف بن سويد الجذامي  أن أبا عشانة المعافري  حدثه أنه سمع  عبد الله بن عمرو بن العاص  ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :   " هل تدرون أول من يدخل الجنة؟    " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فتقول الملائكة : ربنا نحن ملائكتك وسكان سمواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا ، فيقول : عبادي لا يشركون بي شيئا تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يستطع لها قضاء ، فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار    ) "   . 
حدثنا أبو محمد بن حيان  ، ثنا عبد الله بن محمد بن سوار  ، ثنا أبو هلال الأشعري  ، ثنا محمد بن مروان  ، عن ثابت الثمالي أبي حمزة  ، عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب  رضي الله عنهم :   ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا    ) . قال : الغرفة : الجنة  ، بما صبروا : على الفقر في دار الدنيا   . 
قال الشيخ رحمه الله : فأما أسامي أهل الصفة  فقد رأيت لبعض المتأخرين تتبعا على ذكرهم وجمعهم على حروف المعجم ، وضم إلى ذكرهم فقراء المهاجرين الذين قدمنا ذكرهم . وسألني بعض أصحابنا الاحتذاء على كتابه وفي كتابه أسامي جماعة موهوم فيها ; لأن جماعة عرفوا من أهل القبة نسبوا إلى أهل الصفة  وهو تصحيف من بعض النقلة ، وسنبين ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى . فممن بدأنا بذكره : 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					