فصل 
وفي " صحيح  مسلم   " من حديث  أنس بن مالك  ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الشراب ثلاثا  ، ويقول : ( إنه أروى وأمرأ وأبرأ )  . 
الشراب في لسان الشارع وحملة الشرع : هو الماء ، ومعنى تنفسه في الشراب : إبانته القدح عن فيه ، وتنفسه خارجه ، ثم يعود إلى الشراب ، كما جاء مصرحا به في الحديث الآخر : ( إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ، ولكن ليبن الإناء عن فيه  ) . 
 [ ص: 211 ] وفي هذا الشرب حكم جمة ، وفوائد مهمة ، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على مجامعها بقوله : ( إنه أروى وأمرأ وأبرأ  ) ، فأروى : أشد ريا وأبلغه وأنفعه ، وأبرأ : أفعل من البرء ، وهو الشفاء ، أي يبرئ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات ، فتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه ، والثالثة ما عجزت الثانية عنه ، وأيضا فإنه أسلم لحرارة المعدة ، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ، ونهلة واحدة . 
وأيضا فإنه لا يروي لمصادفته لحرارة العطش لحظة ، ثم يقلع عنها ، ولما تكسر سورتها وحدتها ، وإن انكسرت لم تبطل بالكلية بخلاف كسرها على التمهل والتدريج . 
وأيضا فإنه أسلم عاقبة ، وآمن غائلة من تناول جميع ما يروي دفعة واحدة ، فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية بشدة برده ، وكثرة كميته ، أو يضعفها فيؤدي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد ، وإلى أمراض رديئة ، خصوصا في سكان البلاد الحارة ، كالحجاز  واليمن  ونحوهما ، أو في الأزمنة الحارة كشدة الصيف ، فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدا ، فإن الحار الغريزي ضعيف في بواطن أهلها ، وفي تلك الأزمنة الحارة . 
 [ ص: 212 ] وقوله : " وأمرأ " : هو أفعل من مرئ الطعام والشراب في بدنه ، إذا دخله ، وخالطه بسهولة ولذة ونفع . ومنه : ( فكلوه هنيئا مريئا   ) [ النساء : 4 ] هنيئا في عاقبته ، مريئا في مذاقه . وقيل : معناه أنه أسرع انحدارا عن المريء لسهولته وخفته عليه ، بخلاف الكثير ، فإنه لا يسهل على المريء انحداره . 
ومن آفات الشرب نهلة واحدة  أنه يخاف منه الشرق بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه ، فيغص به ، فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك . 
ومن فوائده : أن الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخار الدخاني الحار الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه ، فأخرجته الطبيعة عنها ، فإذا شرب مرة واحدة اتفق نزول الماء البارد ، وصعود البخار ، فيتدافعان ويتعالجان ، ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ، ولا يتهنأ الشارب بالماء ، ولا يمرئه ، ولا يتم ريه . وقد روى  عبد الله بن المبارك  ،  والبيهقي  ، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم : ( إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصا ، ولا يعب عبا ، فإنه من الكباد  ) . 
والكباد - بضم الكاف وتخفيف الباء - هو وجع الكبد ، وقد علم بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها ، وسبب ذلك المضادة التي بين حرارتها ، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته . ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا ، لم يضاد حرارتها ، ولم يضعفها ، وهذا مثاله صب الماء البارد على القدر ، وهي تفور لا يضرها صبه قليلا قليلا . وقد روى  الترمذي  في " جامعه " عنه - صلى الله عليه وسلم : ( لا تشربوا نفسا واحدا كشرب  [ ص: 213 ] البعير ، ولكن اشربوا مثنى وثلاث ، وسموا إذا أنتم شربتم ، واحمدوا إذا أنتم فرغتم  ) . 
وللتسمية في أول الطعام والشراب  ، وحمد الله في آخره تأثير عجيب في نفعه واستمرائه ، ودفع مضرته . 
قال  الإمام أحمد   : إذا جمع الطعام أربعا ، فقد كمل إذا ذكر اسم الله في أوله ، وحمد الله في آخره ، وكثرت عليه الأيدي ، وكان من حل . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					