فصل 
وأما الطريقة الثانية فأظهر بطلانا من وجوه عديدة . 
أحدها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج  في ذي القعدة ، كما تقدم ذلك ، وهو أوسط أشهر الحج . فكيف يظن أن الصحابة لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج  إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، وقد تقدم فعله لذلك ثلاث مرات ؟ 
الثاني : أنه قد ثبت في " الصحيحين " ، أنه قال لهم عند الميقات : " من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل  " ، فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات ، وعامة المسلمين معه ، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ؟ ولعمر الله إن لم يكونوا يعلمون جوازها بذلك فهم أجدر أن لا يعلموا جوازها بالفسخ . 
الثالث : أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل ، وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، ففرق بين محرم ومحرم ، وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل ، لا مجرد الإحرام الأول ، والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره . 
 [ ص: 198 ] الرابع :أن يقال : إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد مخالفة المشركين ، كان هذا دليلا على أن الفسخ أفضل لهذه العلة ؛ لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين ، كان يكون دليلا على أن الفسخ يبقى مشروعا إلى يوم القيامة ، إما وجوبا وإما استحبابا ، فإن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرعه لأمته في المناسك مخالفة لهدي المشركين ، هو مشروع إلى يوم القيامة ، إما وجوبا أو استحبابا ، فإن المشركين كانوا يفيضون من عرفة  قبل غروب الشمس ، وكانوا لا يفيضون من مزدلفة  حتى تطلع الشمس ، وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال :" خالف هدينا هدي المشركين ، فلم نفض من عرفة  حتى غربت الشمس  ". 
وهذه المخالفة إما ركن كقول مالك  ، وإما واجب يجبره دم ، كقول أحمد  ،  وأبي حنيفة  ،  والشافعي  في أحد القولين ، وإما سنة كالقول الآخر له . 
والإفاضة من مزدلفة  قبل طلوع الشمس  سنة باتفاق المسلمين ، وكذلك قريش  كانت لا تقف بعرفة  ، بل تفيض من جمع ، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقف بعرفات  ، وأفاض منها ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   ) [ البقرة 199 ] وهذه المخالفة من أركان الحج باتفاق المسلمين  [ ص: 199 ] فالأمور التي نخالف فيها المشركين هي الواجب أو المستحب ، ليس فيها مكروه ، فكيف يكون فيها محرم ، وكيف يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بنسك يخالف نسك المشركين ، مع كون الذي نهاهم عنه أفضل من الذي أمرهم به .أو يقال : من حج كما حج المشركون فلم يتمتع ، فحجه أفضل من حج السابقين الأولين من المهاجرين  والأنصار  ، بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
الخامس : أنه قد ثبت في " الصحيحين " عنه أنه قال :" دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة   " . وقيل له عمرتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد ؟ فقال : " لا ، بل لأبد الأبد ، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة  ". 
وكان سؤالهم عن عمرة الفسخ كما جاء صريحا في حديث جابر  الطويل . قال : حتى إذا كان آخر طوافه على المروة  ، قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي ، فليحل وليجعلها عمرة " ، فقام سراقة بن مالك  فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا ، أم للأبد ؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال " دخلت العمرة في الحج مرتين ، لا بل لأبد الأبد" وفي لفظ : قدم رسول الله صبح رابعة مضت من ذي الحجة ، فأمرنا أن نحل فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة  إلا خمس ، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا ، فنأتي عرفة  تقطر مذاكيرنا المني  . . . فذكر الحديث. وفيه : فقال سراقة بن مالك   : لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال " لأبد  " . 
وفي " صحيح  البخاري   " عنه : أن سراقة  قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألكم خاصة هذه يا رسول الله ؟ قال " بل للأبد  " فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تلك العمرة التي فسخ من  [ ص: 200 ] فسخ منهم حجة إليها للأبد ، وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة . وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج   . 
وقد اعترض بعض الناس على الاستدلال بقوله : " بل لأبد الأبد " باعتراضين ، أحدهما : أن المراد ، أن سقوط الفرض بها لا يختص بذلك العام ، بل يسقطه إلى الأبد ، وهذا الاعتراض باطل ، فإنه لو أراد ذلك لم يقل : للأبد ، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة ، بل إنما يكون لجميع المسلمين ، ولأنه قال : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " ، ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤال عن تكرار الوجوب ، لما اقتصروا على العمرة ، بل كان السؤال عن الحج ، ولأنهم قالوا له :" عمرتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد ؟" ولو أرادوا تكرار وجوبها كل عام لقالوا له ، كما قالوا له في الحج : أكل عام يا رسول الله ؟ ولأجابهم بما أجابهم به في الحج بقوله : " ذروني ما تركتكم . لو قلت : نعم لوجبت  ". ولأنهم قالوا له : هذه لكم خاصة ، فقال : " بل لأبد الأبد " . فهذا السؤال والجواب صريحان في عدم الاختصاص . 
الثاني : قوله : إن ذلك إنما يريد به جواز الاعتمار في أشهر الحج ، وهذا الاعتراض أبطل من الذي قبله ، فإن السائل إنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه عن المتعة التي هي فسخ الحج ، لا عن جواز العمرة في أشهر الحج ؛ لأنه إنما سأله عقب أمره من لا هدي معه بفسخ الحج ، فقال له سراقة  حينئذ : هذا لعامنا ، أم للأبد ؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - عن نفس ما سأله عنه ، لا عما لم يسأله عنه ، وفي قوله : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة  " عقب أمره من لا هدي معه بالإحلال ، بيان جلي أن ذلك مستمر إلى يوم القيامة ، فبطل دعوى الخصوص ، وبالله التوفيق . 
السادس : أن هذه العلة التي ذكرتموها ، ليست في الحديث ، ولا فيه إشارة إليها ، فإن كانت باطلة بطل اعتراضكم بها ، وإن كانت صحيحة ، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه ، من الوجوه بل إن صحت اقتضت دوام معلولها واستمراره ، كما أن الرمل شرع ليري المشركين قوته وقوة أصحابه ، واستمرت  [ ص: 201 ] مشروعيته إلى يوم القيامة ، فبطل الاحتجاج بتلك العلة على الاختصاص بهم على كل تقدير . 
السابع أن الصحابة - رضي الله عنهم - ، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العمرة في أشهر الحج على فعلهم لها معه ثلاثة أعوام ، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، فمن بعدهم أحرى أن لا يكتفي بذلك حتى يفسخ الحج إلى العمرة ، اتباعا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واقتداء بأصحابه ، إلا أن يقول قائل : إنا نحن نكتفي من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابة ، ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه ، وهذا جهل نعوذ بالله منه . 
الثامن : أنه لا يظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أصحابه بالفسخ الذي هو حرام ، ليعلمهم بذلك مباحا يمكن تعليمه بغير ارتكاب هذا المحظور ، وبأسهل منه بيانا ، وأوضح دلالة ، وأقل كلفة . 
فإن قيل لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراما . قيل : فهو إذا إما واجب أو مستحب . 
وقد قال بكل واحد منهما طائفة ، فمن الذي حرمه بعد إيجابه أو استحبابه ، وأي نص أو إجماع رفع هذا الوجوب أو الاستحباب ، فهذه مطالبة لا محيص عنها . 
التاسع : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة  " أفترى تجدد له - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك العلم بجواز العمرة في أشهر الحج ، حتى تأسف على فواتها ؟ هذا من أعظم المحال . 
العاشر : أنه أمر بالفسخ إلى العمرة ، من كان أفرد ، ومن قرن ، ولم يسق الهدي . 
ومعلوم : أن القارن قد اعتمر في أشهر الحج مع حجته ، فكيف يأمره بفسخ قرانه إلى عمرة ليبين له جواز العمرة في أشهر الحج ، وقد أتى بها ، وضم إليها الحج ؟ . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					