فصل 
الحكم السابع وهي ثلاثة أنواع . أحدها : الزينة في بدنها  ، فيحرم عليها الخضاب والنقش والتطريف والحمرة والاسفيداج ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الخضاب منبها به على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة وأشد مضادة لمقصود الإحداد ، ومنها : الكحل ، والنهي عنه ثابت بالنص بالصريح الصحيح . 
ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف منهم  أبو محمد بن حزم   : لا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلا ، ولا نهارا ، ويساعد قولهم حديث  أم سلمة  المتفق عليه ( أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فما أذن فيه بل قال " لا " مرتين ، أو ثلاثا ، ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الإحداد البليغ سنة ويصبرن على ذلك ، أفلا  [ ص: 624 ] يصبرن أربعة أشهر وعشرا  ) 
ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة فهو كالطيب ، أو أشد منه . ، وقال بعض الشافعية : للسوداء أن تكتحل ، وهذا تصرف مخالف للنص والمعنى ، وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفرق بين السود والبيض كما لا تفرق بين الطوال والقصار ، ومثل هذا القياس بالرأي الفاسد الذي اشتد نكير السلف له وذمهم إياه . 
وأما جمهور العلماء كمالك  ، وأحمد  ،  وأبي حنيفة  ،  والشافعي  وأصحابهم فقالوا : إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداويا لا زينة فلها أن تكتحل به ليلا وتمسحه نهارا ، وحجتهم حديث  أم سلمة  المتقدم رضي الله عنها فإنها قالت في كحل الجلاء : ( لا تكتحل إلا لما لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار  ) 
ومن حجتهم حديث  أم سلمة  رضي الله عنها الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، وقد جعلت عليها صبرا فقال ( ما هذا يا  أم سلمة  ؟ فقلت : صبر يا رسول الله ليس فيه طيب فقال : إنه يشب الوجه فقال : " لا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار  ) وهما حديث واحد فرقه الرواة ، وأدخل مالك  هذا القدر منه في " موطئه " بلاغا ، وذكر أبو عمر  في " التمهيد " له طرقا يشد بعضها بعضا ، ويكفي احتجاج مالك  به ، وأدخله أهل السنن في كتبهم ، واحتج به الأئمة ، وأقل درجاته أن يكون حسنا ، ولكن حديثها هذا مخالف في الظاهر لحديثها المسند المتفق عليه ، فإنه يدل على المتوفى عنها لا تكتحل بحال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للمشتكية عينها في الكحل لا ليلا ، ولا نهارا ، ولا من ضرورة ، ولا غيرها ، وقال " لا " مرتين ، أو ثلاثا ، ولم يقل إلا أن تضطر . 
وقد ذكر مالك  ، عن نافع   ( ، عن صفية ابنة عبيد  أنها اشتكت عينها وهي حاد على زوجها  عبد الله بن عمر  فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان  ) 
 [ ص: 625 ] قال أبو عمر   : وهذا عندي وإن كان ظاهره مخالفا لحديثها الآخر لما فيه من إباحته بالليل وقوله في الحديث الآخر " لا " مرتين ، أو ثلاثا على الإطلاق أن ترتيب الحديثين والله أعلم على أن الشكاة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لم تبلغ - والله أعلم - منها مبلغا لا بد لها فيه من الكحل ؛ فلذلك نهاها ، ولو كانت محتاجة مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك كما فعل بالتي قال لها : ( اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار  ) والنظر يشهد لهذا التأويل ؛ لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى حال المباح في الأصول ، ولهذا جعل مالك  فتوى  أم سلمة  رضي الله عنها تفسيرا للحديث المسند في الكحل ؛ لأن  أم سلمة  رضي الله عنها روته وما كانت لتخالفه إذا صح عندها وهي أعلم بتأويله ومخرجه ، والنظر يشهد لذلك ؛ لأن المضطر إلى شيء لا يحكم له بحكم المرفه المتزين بالزينة ، وليس الدواء والتداوي من الزينة في شيء ، وإنما نهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوي ،  وأم سلمة  رضي الله عنها أعلم بما روت مع صحته في النظر ، وعليه أهل الفقه وبه قال مالك   والشافعي  وأكثر الفقهاء . 
وقد ذكر مالك  رحمه الله في " موطئه " أنه بلغه ، عن  سالم بن عبد الله   وسليمان بن يسار  أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها : إنها إذا خشيت على بصرها من رمد بعينيها ، أو شكوى أصابتها أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب . 
قال أبو عمر   : لأن القصد إلى التداوي لا إلى التطيب والأعمال بالنيات . 
وقال  الشافعي  رحمه الله : الصبر يصفر فيكون زينة وليس بطيب ، وهو كحل الجلاء ، فأذنت  أم سلمة  رضي الله عنها للمرأة بالليل حيث لا ترى ، وتمسحه بالنهار حيث يرى ، وكذلك ما أشبهه . 
وقال أبو محمد بن قدامة  في " المغني " : وإنما تمنع الحادة من الكحل  [ ص: 626 ] بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة ، فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها . 
قال : ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب ، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه يشب الوجه  ) 
قال : ولا تمنع من تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ، ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث  أم سلمة  رضي الله عنها ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب ، وقال  إبراهيم بن هانئ النيسابوري  في " مسائله " قيل لأبي عبد الله   : المتوفى عنها تكتحل بالإثمد ؟  قال : لا ، ولكن إذا أرادت اكتحلت بالصبر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة . 
				
						
						
