وإذا حيل بالموت إلى الوقوع في الماء  فأدنى ما يتفسخ فيه الميت ثلاثة أيام ; ولهذا يصلي على قبر ميت لم يصل عليه إلى ثلاثة أيام  ، وتوهم الوقوع بعد الموت إحالة بالموت إلى سبب لم يظهر ، وتعطيل للسبب الظاهر وهذا لا يجوز ، فبطل اعتبار الوهم ، والتحق الموت في الماء بالمتحقق ، إلا إذا قام دليل المعاينة بالوقوع في الماء ميتا ، فحينئذ يعرف بالمشاهدة أن الموت غير حاصل بهذا السبب ، ولا كلام فيه . 
وأما إذا لم تكن منتفخة ، فلأنا إذا أحلنا بالموت إلى الوقوع في الماء ولا شك أن زمان الموت سابق على زمان الوجود ، خصوصا في الآبار المظلمة العميقة التي لا يعاين ما فيها ، ولذا يعلم يقينا أن الواقع لا يخرج بأول دلو ، فقدر ذلك بيوم وليلة احتياطا ; لأنه أدنى المقادير المعتبرة ، ( والفرق ) بين البئر والثوب على رواية  الحاكم  أن الثوب شيء ظاهر ، فلو كان ما أصابه سابقا على زمان الوجود لعلم به في ذلك الزمان ، فكان عدم العلم قبل ذلك دليل عدم الإصابة - بخلاف البئر على ما مر - وعلى هذا الخلاف إذا عجن بذلك الماء أنه يؤكل خبزه عندهما . 
وعند  أبي حنيفة  لا يؤكل ، وإذا لم يؤكل ماذا يصنع به ؟ قال مشايخنا : يطعم للكلاب ; لأن ما تنجس باختلاط النجاسة به - والنجاسة معلومة - لا يباح أكله ، ويباح الانتفاع به فيما وراء الأكل ، كالدهن النجس أنه ينتفع به استصباحا إذا كان الطاهر غالبا فكذا هذا وبئر الماء إذا كانت بقرب من البالوعة لا يفسد الماء ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه ، وقدر أبو حفص  المسافة بينهما بسبعة أذرع وأبو سليمان  بخمسة ، وذا ليس بتقدير لازم ; لتفاوت الأراضي في الصلابة والرخاوة ، ولكنه خرج على الأغلب ; ولهذا قال  محمد  بعد هذا التقدير : لو كان بينهما سبعة أذرع ولكن يوجد طعمه أو ريحه لا يجوز التوضؤ به ، فدل على أن العبرة بالخلوص ، وعدم الخلوص ، وذلك يعرف بظهور ما ذكر من الآثار وعدمه ، ثم الحيوان إذا مات في المائع القليل  فلا يخلو إما إن كان له  [ ص: 79 ] دم سائل أو لم يكن ، ولا يخلو إما أن يكون بريا أو مائيا ، ولا يخلو إما إن مات في الماء أو في غير الماء ، فإن لم يكن له دم سائل ، كالذباب والزنبور والعقرب والسمك والجراد ونحوها لا ينجس بالموت ، ولا ينجس ما يموت فيه من المائع ، سواء كان ماء أو غيره من المائعات ، كالخل واللبن والعصير وأشباه ذلك ، وسواء كان بريا أو مائيا كالعقرب المائي ونحوه ، وسواء كان السمك طافيا أو غير طاف . 
وقال  الشافعي    : إن كان شيئا يتولد من المائع كدود الخل ، أو ما يباح أكله بعد الموت كالسمك والجراد لا ينجس قولا واحدا ، وله في الذباب والزنبور قولان ، ( ويحتج ) بظاهر قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة    } ، ثم خص منه السمك والجراد بالحديث ، والذباب والزنبور بالضرورة . 
( ولنا ) ما ذكرنا أن نجاسة الميتة  ليست لعين الموت ، فإن الموت موجود في السمك والجراد ولا يوجب التنجيس ، ولكن لما فيها من الدم المسفوح ، ولا دم في هذه الأشياء ، وإن كان له دم سائل فإن كان بريا ينجس بالموت وينجس المائع الذي يموت فيه ، سواء كان ماء أو غيره ، وسواء مات في المائع أو في غيره ، ثم وقع فيه كسائر الحيوانات الدموية ; لأن الدم السائل نجس فينجس ما يجاوره ، إلا الآدمي إذا كان مغسولا ; لأنه طاهر ، ألا يرى أنه تجوز الصلاة عليه وإن كان مائيا كالضفدع المائي والسرطان ونحو ذلك ، فإن مات في الماء لا ينجسه في ظاهر الرواية . 
وروي عن  أبي يوسف  في غير رواية الأصول أنه قال : لو أن حية من حيات الماء ماتت في الماء  ، إن كانت بحال لو جرحت لم يسل منها الدم لا توجب التنجيس ، وإن كانت لو جرحت لسال منها الدم توجب التنجيس . 
وجه ظاهر الرواية ما علل به  محمد  في كتاب الصلاة فقال : لأن هذا مما يعيش في الماء ، ثم إن بعض المشايخ - وهم مشايخ بلخ    - فهموا من تعليل  محمد  أنه لا يمكن صيانة المياه عن موت هذه الحيوانات فيها ; لأن معدنها الماء ، فلو أوجب موتها فيها التنجيس لوقع الناس في الحرج ، وبعضهم - وهم مشايخ العراق    - فهموا من تعليله أنها إذا كانت تعيش في الماء لا يكون لها دم ، إذ الدموي لا يعيش في الماء لمخالفة بين طبيعة الماء وبين طبيعة الدم ، فلم تتنجس في نفسها ; لعدم الدم المسفوح ، فلا توجب تنجيس ما جاورها ضرورة ، وما يرى في بعضها من صورة الدم فليس بدم حقيقة ، ألا ترى أن السمك يحل بغير ذكاة مع أن الذكاة شرعت لإراقة الدم المسفوح ولذا ، إذا شمس دمه يبيض ، ومن طبع الدم أنه إذا شمس اسود ، وإن مات في غير الماء فعلى قياس العلة الأولى يوجب التنجيس ; لأنه يمكن صيانة سائر المائعات عن موتها فيها ، وعلى قياس العلة الثانية لا يوجب التنجيس لانعدام الدم المسفوح فيها . 
وروي عن نصير بن يحيى  أنه قال : سألت أبا مطيع البلخي  ، وأبا معاذ  عن الضفدع يموت في العصير  فقالا : يصب وسألت أبا عبد الله البلخي  ومحمد بن مقاتل الرازي  فقالا : لا يصب وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام  أنه كان يقول : يفسد وذكر الكرخي  عن أصحابنا أن كل ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء ، وهكذا روى هشام  عنهم ، وهذا أشبه بالفقه ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					