فصل  
قال  وأضعف الصبر     : الصبر لله . وهو صبر العامة . وفوقه : الصبر بالله . وهو صبر المريدين . وفوقه : الصبر على الله . وهو  صبر السالكين     .  
معنى كلامه : أن صبر العامة لله . أي رجاء ثوابه ، وخوف عقابه . وصبر المريدين بالله . أي بقوة الله ومعونته . فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ، ولا قوة لهم عليه . بل حالهم التحقق ب " لا حول ولا قوة إلا بالله " علما ومعرفة وحالا .  
وفوقهما : الصبر على الله . أي على أحكامه . إذ صاحبه يشهد المتصرف فيه . فهو يصبر على أحكامه الجارية عليه ، جالبة عليه ما جلبت من محبوب ومكروه . فهذه درجة صبر السالكين .  
وهؤلاء الثلاثة عنده من العوام . إذ هو في مقام الصبر . وقد ذكر أنه للعامة وأنه من أضعف منازلهم .
هذا تقرير كلامه .  
والصواب : أن الصبر لله فوق الصبر بالله ، وأعلى درجة منه وأجل . فإن الصبر لله متعلق بإلهيته . والصبر به : متعلق بربوبيته . وما تعلق بإلهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته .  
ولأن الصبر له : عبادة . والصبر به استعانة . والعبادة غاية . والاستعانة وسيلة . والغاية مرادة لنفسها ، والوسيلة مرادة لغيرها .  
 [ ص: 168 ] ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر . فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به .  
وأما الصبر له : فمنزلة الرسل والأنبياء والصديقين ، وأصحاب مشهد  إياك نعبد وإياك نستعين      .  
ولأن الصبر له : صبر فيما هو حق له ، محبوب له مرضي له . والصبر به : قد يكون في ذلك وقد يكون فيما هو مسخوط له . وقد يكون في مكروه أو مباح ، فأين هذا من هذا ؟  
وأما تسمية الصبر على أحكامه صبرا عليه . فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى . فهذا هو الصبر على أقداره . وقد جعله الشيخ في الدرجة الثالثة ، وقد عرفت بما تقدم : أن  الصبر على طاعته ، والصبر عن معصيته : أكمل من الصبر على أقداره     - كما ذكرنا في صبر  يوسف   عليه السلام - فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة . والصبر على أحكامه الكونية : صبر ضرورة . وبينهما من البون ما قد عرفت .  
وكذلك كان صبر  نوح   وإبراهيم   وموسى   عليهم الصلاة والسلام ، على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ، ومقاومتهم قومهم : أكمل من صبر  أيوب   على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله .  
وكذلك كان صبر  إسماعيل   الذبيح . وصبر أبيه  إبراهيم   عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر  يعقوب   على فقد  يوسف      .  
فعلمت بهذا أن الصبر لله أكمل من الصبر بالله . والصبر على طاعته والصبر على معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره . والله المستعان . وعليه التكلان . ولا حول ولا قوة إلا بالله .  
فإن قلت : الصبر بالله أقوى من الصبر لله . فإن ما كان بالله كان بحوله وقوته . وما كان به لم يقاومه شيء . ولم يقم له شيء . وهو صبر أرباب الأحوال والتأثير . والصبر لله صبر أهل العبادة والزهد . ولهذا هم - مع إخلاصهم وزهدهم وصبرهم لله - أضعف من الصابرين به ، فلهذا قال : وأضعف الصبر : الصبر لله .  
قيل : المراتب أربعة .  
إحداها : مرتبة الكمال . وهي مرتبة أولي العزائم . وهي  الصبر لله وبالله     .  
فيكون      [ ص: 169 ] في صبره مبتغيا وجه الله ، صابرا به ، متبرئا من حوله وقوته . فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها .  
الثانية : أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا . فهو أخس المراتب ، وأردأ الخلق . وهو جدير بكل خذلان ، وبكل حرمان .  
الثالثة : مرتبة من فيه صبر بالله . وهو مستعين متوكل على حوله وقوته . متبرئ من حوله هو وقوته . ولكن صبره ليس لله ، إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه . فهذا ينال مطلوبه ، ويظفر به . ولكن لا عاقبة له . وربما كانت عاقبته شر العواقب .  
وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية . فإن صبرهم بالله لا لله ، ولا في الله . ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم . وهم من جنس الملوك الظلمة . فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر ، والمؤمن ، والكافر .  
الرابع : من فيه صبر لله ، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به ، والتوكل عليه ، والثقة به ، والاعتماد عليه . فهذا له عاقبة حميدة ، ولكنه ضعيف عاجز ، مخذول في كثير من مطالبه . لضعف نصيبه من  إياك نعبد وإياك نستعين   فنصيبه من الله : أقوى من نصيبه بالله . فهذا حال المؤمن الضعيف .  
وصابر بالله ، لا لله : حال الفاجر القوي . وصابر لله وبالله : حال المؤمن القوي . والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .  
فصابر لله وبالله عزيز حميد . ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول . ومن هو بالله لا لله قادر مذموم . ومن هو لله لا بالله عاجز محمود .  
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذا الباب . ويتبين فيه الخطأ من الصواب . والله سبحانه وتعالى أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					