فصل  
قال صاحب " المنازل " :  
الدرجة الثالثة :  تهذيب القصد      . وهو تصفيته من ذل الإكراه ، وتحفظه من مرض الفتور ، ونصرته على منازعات العلم .  
هذه أيضا ثلاثة أشياء تهذب قصده وتصفيه .  
أحدها : تصفيته من ذلك الإكراه . أي لا يسوق نفسه إلى الله كرها . كالأجير      [ ص: 102 ] المسخر المكلف ، بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا . كجريان الماء في منحدره . وهذه  حال المحبين الصادقين      . فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضا . ففيها قرة عيونهم ، وسرور قلوبهم ، ولذة أرواحهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  وجعلت قرة عيني في الصلاة  ، وكان يقول :  يا  بلال  ، أرحنا بالصلاة     .  
فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه : في طاعة محبوبه . بخلاف المطيع كرها ، المتحمل للخدمة ثقلا .  
وفي قوله : ذل الإكراه . لطيفة ، وهي أن المطيع كرها يرى أنه لولا ذل قهره ، وعقوبة سيده له لما أطاعه . فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي قد أذله مكرهه وقاهره . بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتا ونعيما ، ولذة وسرورا ، فهذا ليس الحامل له ذل الإكراه .  
والثاني : تحفظه من مرض الفتور . أي توقيه من مرض فتور قصده ، وخمود نار طلبه . فإن العزم هو روح القصد ، ونشاطه كالصحة له . وفتوره مرض من أمراضه . فتهذيب قصده وتصفيته بحميته من أسباب هذا المرض الذي هو فتوره . وإنما يتحفظ منه بالحمية من أسبابه . وهو أن يلهو عن الفضول من كل شيء . ويحرص على ترك ما لا يعنيه . ولا يتكلم إلا فيما يرجو فيه زيادة إيمانه وحاله مع الله ولا يصحب إلا من يعينه على ذلك . فإن بلي بمن لا يعينه فليدرأه عنه ما استطاع ، ويدفعه دفع الصائل .  
 [ ص: 103 ] الثالث : نصرة قصده على منازعات العلم ، ومعنى ذلك : نصرة خاطر العبودية المحضة ، والجمعية فيها ، والإقبال على الله فيها بكلية القلب ، على جواذب العلم والفكرة في دقائقه ، وتفاريع مسائله وفضلاته . أو أن العلم يطلب من العبد العمل للرغبة والرهبة والثواب ، وخوف العقاب .  
فتهذيب القصد : تصفيته من ملاحظة ذلك ، وتجريده : أن يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا علة ، وأن لا يحب الله لما يعطيه ويحميه منه . فتكون محبته لله محبة الوسائل ، ومحبته بالقصد الأول لما يناله من الثواب المخلوق . فهو المحبوب له بالذات . بحيث إذا حصل له محبوبه تسلى به عن محبة من أعطاه إياه . فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله . وملك عند انقضائه . والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض . فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض . وإنما مراده : أن محبته تدوم لا تنقضي أبدا ، وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره ، بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه .  
وهذا القدر هو الذي حام عليه القوم ، وداروا حوله . وتكلموا فيه . وشمروا إليه . فمنهم من أحسن التعبير عنه . ومنهم من أساء العبارة . وقصده وصدقه يصلح فساد عبارته . ومن الناس من لم يفهم هذا كما ينبغي ، فلم يجد له ملجأ غير الإنكار . والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع مرضاته . فإنه واسع المغفرة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					