قال الرازي   : 
( البرهان التاسع : هو أن الشيء حال اعتبار وجوده من حيث هو موجود واجب الوجود لامتناع عدمه مع وجوده  [1] ، وكذلك هو في حال عدمه واجب العدم لامتناع كونه موجودا معدوما [2] ، والحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين ، فإذا كانت الماهية . [3]  [ في كلتا الحالتين ] [4]  [ ص: 286 ] على كلتا الصفتين واجبة ، فالماهية من حيث هي واجبة غير مفتقرة إلى مؤثر ، فإن الواجب [5] من حيث هو واجب يمتنع استناده [6] إلى المؤثر ، فإذن [7] الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة ، فإن لم [8] تعتبر الماهية من حيث هي هي لم يرتفع الوجوب ، أي وجوب الوجود في زمنه ، ووجوب العدم في زمنه ، وهو بهذا الاعتبار [ لا ] [9] يحتاج إلى المؤثر ، فعلمنا أن الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة ، وإنما المحوج هو الإمكان ) . 
والجواب : أن في هذه الحجة مغالطات متعددة  ، وجوابها من وجوه ، أحدها : أن يقال : هب أنه في حال وجوده واجب الوجود لكنه واجب الوجود بغيره ، وذلك [ لا ] [10] يناقض كونه مفتقرا إلى الفاعل مفعولا له محدثا بعد أن لم يكن ، فإذا [11] لم يكن هذا الوجوب مانعا مما [12] يستلزم افتقاره إلى الفاعل لم يمتنع كونه مفتقرا إلى الفاعل مع هذا الوجوب . 
الثاني : أن قوله : ( الحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين ) يقال له : الحدوث يتضمن هاتين الحالتين ، وهو يتضمن مع ذلك أنه وجد بفاعل أوجده هو مفتقر إليه لا يوجد بدون إيجاده له بعد أن لم يكن  [ ص: 287 ] موجودا ، فالحدوث يتضمن هذا المعنى ، أو يستلزمه ، وإذا كان الحدوث متضمنا للحاجة إلى الفاعل ، [ أو ] [13] مستلزما للحاجة إلى الفاعل لم يجز أن يقال : هو مانع عن الحاجة ، فإن الشيء لا يمنع لازمه [14] ، وإنما يمنع ضده . 
الثالث : قوله : ( الواجب من حيث هو [15] واجب يمتنع استناده إلى المؤثر ) ممنوع ، بل الواجب بنفسه هو الذي يمتنع استناده [16] إلى المؤثر ، وأما الواجب بغيره ، فلا يمتنع استناده إلى المؤثر ، بل نفس كونه واجبا بغيره يتضمن استناده إلى المؤثر ، ويستلزم ذلك ، فكيف يقال : إن الوجوب بالغير يمنع الاستناد إلى الغير . 
وإن قال : أنا أريد الواجب من حيث هو واجب مع قطع النظر عن كونه واجبا بنفسه أو بغيره . 
قيل له : ليس في الخارج إلا واجب بنفسه ، أو بغيره ، وإذا أخذ مطلقا عن القيدين [17] ، فهو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان . 
ثم يقال : لا نسلم أن الواجب إذا أخذ مطلقا يمتنع استناده إلى المؤثر ، بل الواجب إذا أخذ مطلقا لا يستلزم المؤثر ، [ ولا ينفي ( * المؤثر ] [18] ، فإن من الواجب ما يستلزم المؤثر ، وهو الواجب بغيره ، ومنه ما ينفيه ، وهو * ) [19] الواجب  [ ص: 288 ] بنفسه ، وصار هذا كاللون إذا أخذ مجردا لا يستلزم السواد ، ولا ينفيه ، والحيوان إذا أخذ مجردا لا يستلزم النطق . ولا ينفيه ، وكذلك سائر المعاني العامة التي تجري مجرى الأجناس إذا أخذت مع قطع النظر عن بعض الأنواع لم تكن [20] مستلزمة لذلك ، ولا مانعة منه . 
الرابع : أن قول القائل : ( الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة إلى المؤثر ) [21] مما يعلم فساده ببديهة العقل ، والعلم بفساد ذلك أظهر من العلم بفساد قول من يقول الإمكان من حيث هو إمكان مانع عن الحاجة إلى المؤثر ، فإن علم الناس بأن ما حدث بعد أن لم يكن لا بد له من محدث أظهر ، وأبين من علمهم بأن ما قبل [22] الوجود والعدم لا بد له من مرجح ، فإذا كانت الحجة النافية لهذا سوفسطائية ، فتلك أولى أن تكون سوفسطائية . 
الخامس : أن هذه الحجة مبنية على أن في الخارج ماهية غير الوجود الحاصل في الخارج ، وأنه [23] يعتقب عليها الوجود والعدم ، وهذا ممنوع وباطل . 
السادس : أنه لو سلم ذلك ، فالماهية من حيث هي هي لا تستحق وجودا ولا عدما ، ولا تفتقر إلى فاعل ، فإن من يقول ذلك يقول الماهيات غير مجعولة وأن [24] المجعول اتصافها [25] بالوجود ، وإنما تفتقر إلى الفاعل إذا كانت  [ ص: 289 ] موجودة ، وإذا كانت موجودة فوجودها واجب فعلم أن افتقارها إلى الفاعل في حال وجوب وجودها بالغير [26] ، لا في الحال التي لا تستحق فيها وجودا ولا عدما . 
السابع : أنه لو سلم أن هذه الماهية ثابتة في الخارج ، وإنما هي من حيث [27] هي هي مفتقرة إلى المؤثر ، فليس في هذا ما يدل على وجوب كونها أزلية ، بل ولا على إمكان ذلك ، وإذا لم يكن فيه ما يدل على ذلك لم يمتنع أن يكون هذا الافتقار لا يثبت لها إلا مع الحدوث ، ولكون الحدوث شرطا في هذا الافتقار [28]  . 
الثامن : أنا إذا سلمنا أن علة الافتقار إلى الفاعل هو الإمكان ، فالإمكان الذي يعقله الجمهور إمكان أن يوجد الشيء ، وإمكان أن يعدم الشيء [29] ، وهذا الإمكان ملازم للحدوث ، فلا يعقل إمكان كون الشيء قديما أزليا واجبا بغيره ، وهو مع ذلك يفتقر إلى الفاعل ، وهذا هو [30] الذي يدعونه . 
التاسع : أنهم إذا جعلوا الوجوب مانعا من الاستناد إلى الغير ، وإن كان وجوبا حادثا ، فالوجوب القديم الأزلي [31] أولى أن يكون مانعا من الاستناد إلى الغير ، والأفلاك عندهم واجبة الوجود أزلا وأبدا ، ووجوب ذلك  [ ص: 290 ] بغيرها ، فإذا كان هذا الوجوب لازما [32] للماهية ، والوجوب مانع من الافتقار إلى الغير كان لازم الماهية مانعا لها من الافتقار ، فلا تزال الماهية القديمة ممنوعة من الافتقار إلى الغير [33] ، فيلزم أن لا تفتقر إلى الغير أبدا ، وهذا هو الذي يقوله جماهير العقلاء ، وأن ما كان قديما [34] يمتنع أن يكون مفعولا . 
العاشر : أنه إذا قدر أن الإمكان هو المحوج إلى الغير [35] المؤثر ، فالتأثير هو جعل الشيء موجودا وإبداع وجوده جعل [36] ما يمكن عدمه موجودا لا يعقل إلا بإحداث وجود له بعد أن لم يكن ، وإلا فما كان وجوده واجبا أزليا يمتنع عدمه لا يعقل حاجته إلى من يجعله موجودا ، وإذا قالوا : هو واجب الوجود أزلا وأبدا [37] يمتنع عدمه ، وقالوا مع ذلك : إن غيره هو الذي أبدعه ، وجعله موجودا ، وإنه يمكن وجوده وعدمه ، فقد جمعوا في كلامهم من التناقض أعظم مما يذكرونه عن [38] غيرهم . 
الحادي عشر : أنه لو كان مجرد الإمكان مستلزما للحاجة إلى الفاعل لكان كل ممكن موجودا ، كما أنا إذا قلنا : الحدوث هو المحوج إلى المؤثر كان كل محدث موجودا ; لأن [39] المحتاج إلى الفاعل إنما يحتاج إليه إذا فعله الفاعل ، وإلا فبتقدير أن لا يفعله لا حاجة به إليه ، وإذا فعله الفاعل لزم  [ ص: 291 ] وجوده ، فيلزم وجود كل ممكن ، وهو معلوم الفساد بضرورة [ العقل ] [40]  . 
فإن قيل : المراد أن [41] الممكن لا يوجد إلا بفاعل قيل : فيكون الإمكان مع الوجود يستلزم الحاجة إلى الفاعل ، وحينئذ فيحتاجون إلى بيان أنه يمكن كون [42] وجود الممكن أزليا ، وأن الفاعل يمكنه أن يكون مفعوله المعين أزليا ، وهذا إذا أثبتموه لم تحتاجوا إلى ما تقدم ، فإنه لا تثبت حاجة الممكن إلى الفاعل إلا في حال وجوده فعلم أن الاستدلال بمجرد الإمكان باطل . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					