السبب السابع : المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا [1] . ( * كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غم ولا هم [2] ، ولا حزن ولا أذى ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه [3] ، [4] " .
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مثل [ ص: 229 ] المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها [5] الرياح ، تقومها تارة وتميلها أخرى . ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة ، لا تزال ثابتة على أصلها ، حتى يكون انجعافها مرة واحدة " [6] .
وهذا المعنى متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ في أحاديث كثيرة ] [7] . والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يبتلون بالمصائب الخاصة ، وابتلوا بمصائب مشتركة ، كالمصائب التي حصلت في الفتن ، ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا ، والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم ، وهذا أصيب في ماله ، وهذا أصيب بجراحته ، وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزه ، [ ص: 230 ] إلى غير ذلك ، فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة ، فكيف الصحابة ؟ وهذا مما لا بد منه .
وقد ثبت في الصحيح [8] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ، فأعطانيها ، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم [ فيجتاحهم ] [9] ، فأعطانيها . وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " [10] .
[ ص: 231 ] وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما نزل قوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) [ سورة الأنعام : 65 ] . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بوجهك " ( 1 ( أو من تحت أرجلكم ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بوجهك " 1 ) [11] ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال : " هذا أهون وأيسر " [12] .
فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما . والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم ، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف [13] .
ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة ، فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان : بدعة الخوارج المكفرين لعلي ، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته ، أو نبوته أو إلاهيته .
ثم لما كان في آخر عصر الصحابة ، في إمارة ابن الزبير وعبد الملك ، حدثت بدعة المرجئة والقدرية . ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة . ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك [14] .
وكذلك فتن السيف ، فإن الناس كانوا في ولاية معاوية - رضي الله عنه - متفقين يغزون العدو ، فلما مات معاوية قتل الحسين ، وحوصر ابن الزبير بمكة ، ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة .
[ ص: 232 ] ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط .
ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة .
ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة .
ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة . [15]
وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة .
ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه ابن الأشعث [16] مع خلق عظيم من العراق [17] وكانت فتنة كبيرة ، فهذا كله بعد موت معاوية .
ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان ، وقتل زيد بن علي بالكوفة ، وقتل خلق كثير آخرون .
ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها ، ثم هلم جرا .
فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ، ولا كان الناس في زمان [18] ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية ، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده . وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل .
وقد روى أبو بكر الأثرم ، ورواه ابن بطة من طريقه ، حدثنا محمد بن [ ص: 233 ] عمرو بن جبلة [19] ، حدثنا محمد بن مروان ، عن يونس ، عن قتادة قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدي .
وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال : لو أدركتم معاوية لقلتم : هذا المهدي .
ورواه الأثرم : حدثنا محمد بن حواش [20] ، حدثنا أبو هريرة المكتب قال : كنا عند الأعمش ، فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ [21] قال : لا والله ، بل في عدله .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : لما قدم معاوية فرض للناس [22] على أعطية [23] آبائهم حتى انتهى إلي ، فأعطاني ثلاثمائة درهم .
وقال عبد الله : أخبرنا [24] أبو سعيد الأشج ، حدثنا [25] أبو أسامة ، ثنا [ الثقفي ] [26] ، عن أبي إسحاق ، يعني السبيعي [27] ، أنه [ ذكر معاوية ] [28] [ ص: 234 ] فقال : لو [ أدركتموه أو ] أدركتم [29] أيامه لقلتم : كان المهدي [30] .
وروى الأثرم ، حدثنا محمد بن العلاء ، عن أبي [ بكر ] [31] بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : ما رأيت [32] بعده مثله ، يعني معاوية .
وقال البغوي : حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا ضمام بن إسماعيل ، عن أبي قيس [33] قال : كان معاوية قد جعل في كل قبيل [34] رجلا ، وكان رجل منا يكنى أبا يحيى ، يصبح كل يوم فيدور على المجالس : هل ولد فيكم الليلة ولد ؟ هل حدث الليلة حدث [35] ؟ هل نزل اليوم بكم [36] نازل ؟ قال : فيقولون : نعم ، نزل رجل من أهل اليمن بعياله ، يسمونه وعياله ، فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان ، فأوقع أسماءهم في الديوان .
وروى محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا ابن أبي مريم ، عن عطية بن قيس قال : سمعت معاوية [ بن أبي سفيان ] [37] يخطبنا يقول : إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم [38] ، وإني قاسمه بينكم ، فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم ، وإلا فلا عتبة علي ، فإنه ليس بمالي ، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم .
[ ص: 235 ] وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة . وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ؟ إنه أوتر بركعة [39] ؟ قال : أصاب إنه فقيه [40] .
وروى البغوي في معجمه بإسناده ، ورواه ابن بطة من وجه آخر ، كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز ، عن إسماعيل بن عبد الله [41] بن أبي المهاجر ، عن قيس بن الحارث ، عن الصنابحي ، عن أبي الدرداء قال : ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا . يعني معاوية [42] .
فهذه [43] شهادة الصحابة بفقهه ودينه ، والشاهد بالفقه ابن عباس ، وبحسن الصلاة أبو الدرداء ، وهما هما . والآثار الموافقة لهذا كثيرة [44] .
[ ص: 236 ] هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين ، بل قد قيل : إنه من مسلمة الفتح . وقيل : أسلم قبل ذلك . وكان يعترف بأنه [45] ليس من فضلاء الصحابة . وهذه سيرته مع عموم ولايته ، فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ، ومن قبرص إلى اليمن .
ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي ، فضلا عن أبي بكر وعمر . فكيف يشبه غير الصحابة بهم ؟ وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة [46] معاوية - رضي الله عنه - [47]
والمقصود أن الفتن التي بين الأمة ، والذنوب التي لها بعد الصحابة ، أكثر وأعظم . ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة لهم . وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة .
قال عبد الله بن [ الإمام ] أحمد [48] : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل ، يعني ابن علية ، حدثنا أيوب [ يعني ] السختياني [49] ، عن محمد بن سيرين قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف ، فما حضرها [50] منهم مائة ، بل لم يبلغوا [51] ثلاثين . وهذا الإسناد [ ص: 237 ] من أصح إسناد [52] على وجه الأرض . ومحمد بن سيرين [ من ] [53] أورع الناس في منطقه ، ومراسيله من أصح المراسيل .
وقال عبد الله : حدثنا أبي ، ( * حدثنا إسماعيل ، حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال : قال الشعبي : لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير علي وعمار وطلحة والزبير ، فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب .
وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا أبي [54] * ) ، حدثنا أمية بن خالد قال : قيل لشعبة : إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا . فقال : كذب والله ، لقد ذاكرت الحكم بذلك ، وذاكرناه في بيته ، فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت .
قلت : هذا النفي يدل على قلة من حضرها ، وقد قيل : إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب . وكلام ابن سيرين مقارب [55] فما يكاد يذكر مائة واحد .
وقد روى ابن بطة عن بكير بن الأشج قال : أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .


