وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل  ، ولهذا قال تعالى لهم : ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون   [ سورة البقرة : 42 ] ، وقال : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض   [ سورة البقرة : 8 ] ، وقال عنهم : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا   [ سورة النساء : 150 ] ، وقال عنهم :  [ ص: 168 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم   [ سورة البقرة : 91 ] . 
وذلك لأنهم ابتدعوا بدعا خلطوها بما جاءت به الرسل ، وفرقوا دينهم وكانوا [1] شيعا ، فصار [2] في كل فريق منهم حق وباطل ، وهم يكذبون بالحق الذي مع الفريق الآخر ، ويصدقون بالباطل الذي معهم . 
[ وهذا حال أهل البدع كلهم ; فإن معهم ] [3] حقا وباطلا [4] ، فهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، كل فريق يكذب بما مع الآخر من الحق ويصدق بما معه من الباطل ، كالخوارج  والشيعة   ; فهؤلاء يكذبون بما ثبت من فضائل أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب  رضي الله عنه ، ويصدقون بما روي في فضائل  أبي بكر   وعمر  رضي الله عنهما ، ويصدقون بما ابتدعوه من تكفيره وتكفير من يتولاه ويحبه . وهؤلاء يصدقون بما روي في فضائل  علي بن أبي طالب  ، ويكذبون بما روي في فضائل  أبي بكر   وعمر  ، ويصدقون بما ابتدعوه من التكفير والطعن في  أبي بكر   وعمر   وعثمان   . 
ودين الإسلام وسط بين الأطراف المتجاذبة   . فالمسلمون وسط في التوحيد بين اليهود  والنصارى  ، فاليهود  [5] تصف الرب بصفات النقص التي يختص بها المخلوق ، ويشبهون الخالق بالمخلوق . كما قالوا : إنه بخيل ، وإنه فقير ، وإنه لما خلق السماوات والأرض تعب . وهو سبحانه  [ ص: 169 ] الجواد الذي لا يبخل والغني الذي لا يحتاج إلى غيره ، والقادر الذي لا يمسه لغوب . والقدرة والإرادة والغنى عما [6] سواه هي صفات الكمال التي تستلزم سائرها . 
والنصارى  يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها ، ويشبهون المخلوق بالخالق ، حيث قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم  ، وإن الله ثالث ثلاثة ، وقالوا : المسيح  ابن الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم  ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون   . 
فالمسلمون وحدوا الله ووصفوه بصفات الكمال ، ونزهوه عن جميع صفات النقص ، ونزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات ، فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النقص ، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . 
وكذلك في النبوات ; فاليهود  تقتل بعض الأنبياء ، وتستكبر عن اتباعهم ، وتكذبهم [7] وتتهمهم بالكبائر . والنصارى  يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيا ورسولا ، كما يقولون في الحواريين   : إنهم رسل ، بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء . فالنصارى  تصدق بالباطل ، واليهود  تكذب بالحق . 
ولهذا كان في مبتدعة أهل الكلام شبه [8] من اليهود  ، وفي مبتدعة أهل  [ ص: 170 ] التعبد شبه [9] من النصارى   ; فآخر أولئك الشك والريب ، وآخر هؤلاء الشطح والدعاوى الكاذبة ، لأن أولئك كذبوا بالحق فصاروا إلى الشك ، وهؤلاء صدقوا بالباطل فصاروا إلى الشطح ، فأولئك كظلمات في بحر لجي ، [ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض ] [10] ، وهؤلاء كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . 
فمبتدعة أهل العلم والكلام طلبوا العلم بما ابتدعوه ، ولم يتبعوا العلم المشروع ويعملوا به ، فانتهوا إلى الشك المنافي للعلم ، بعد أن كان لهم علم بالمشروع ، لكن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، وكانوا مغضوبا عليهم . 
ومبتدعة العباد [11] طلبوا القرب من الله بما ابتدعوه في العبادة ، فلم يحصل لهم إلا البعد منه ; فإنه ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله تعالى بعدا . 
والبعد عن رحمته [12] ، هو اللعنة وهو غاية النصارى   . وأما الشرائع فاليهود  منعوا الخالق أن يبعث رسولا بغير شريعة الرسول الأول ، وقالوا : لا يجوز أن ينسخ ما شرعه . والنصارى  جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله بهم رسوله [13] ، فأولئك عجزوا الخالق ، ومنعوه ما  [ ص: 171 ] تقتضيه قدرته وحكمته في النبوات والشرائع . وهؤلاء جوزوا للمخلوق أن يغير ما شرعه الخالق ، فضاهوا المخلوق بالخالق [14]  . 
وكذلك في العبادات ; فالنصارى  يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان . واليهود  معرضون عن العبادات ، حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته ، إنما يشتغلون فيه بالشهوات . فالنصارى  مشركون به واليهود  مستكبرون عن عبادته . 
والمسلمون عبدوا الله وحده بما شرع ، ولم يعبدوه بالبدع . وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع النبيين ، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره ، وهو الحنيفية دين إبراهيم   . فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر . 
وقد قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   [ سورة النساء : 48 ] . 
وقال : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين   [ سورة غافر : 60 ] . 
وكذلك في أمر الحلال والحرام : في الطعام واللباس وما يدخل في ذلك من النجاسات ; فالنصارى  لا تحرم ما حرمه الله ورسوله ، ويستحلون الخبائث المحرمة كالميتة والدم ولحم الخنزير ، حتى أنهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ، ولا يغتسلون من جنابة ، ولا يتطهرون للصلاة ، وكلما كان الراهب عندهم أبعد عن الطهارة ، وأكثر ملابسة للنجاسة كان معظما عندهم . 
 [ ص: 172 ] واليهود  [15] حرمت عليهم طيبات أحلت لهم ، فهم يحرمون من الطيبات ما هو منفعة للعباد ، ويجتنبون الأمور الطاهرات [16] مع النجاسات ، فالمرأة الحائض لا يأكلون معها ولا يجالسونها ، فهم في آصار وأغلال عذبوا بها . 
فأولئك [17] يتناولون الخبائث المضرة ، مع أن الرهبان يحرمون على أنفسهم طيبات أحلت لهم ، فيحرمون الطيبات ويباشرون النجاسات ، وهؤلاء يحرمون الطيبات النافعة ، مع أنهم من أخبث الناس قلوبا ، وأفسدهم بواطن . 
وطهارة الظاهر إنما يقصد بها طهارة القلب ، فهم يطهرون ظواهرهم وينجسون قلوبهم . 
وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور . فهم في علي وسط بين الخوارج  والروافض   . وكذلك في  عثمان  وسط بين المروانية  وبين الزيدية   . وكذلك في سائر الصحابة  وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم . وهم في الوعيد وسط بين الخوارج  والمعتزلة  وبين المرجئة   . وهم في القدر وسط بين القدرية  من المعتزلة  ونحوهم . وبين القدرية المجبرة من الجهمية  ونحوهم . وهم في الصفات وسط بين المعطلة  وبين الممثلة   . 
والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار  [ ص: 173 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة [18] إلا بقول فاسد ، لا ينفردون قط بقول صحيح . وكل من كان عن السنة أبعد ، كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر   . وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرافضة   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					