الثاني [1] وهذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب ، وبدأ الأول في الصفحة السابقة .
: أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب ; فإنه من المعلوم [2]
1 أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا [3] .
على قتله ; فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض . فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر ، فيجب [4]
أن تكون بيعته حقا لحصول الإجماع عليها . وإن لم [ ص: 324 ] يجز الاحتجاج به ، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله . لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة . ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته ، ويقولون : إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها [5]
. ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله [6]
، وقال قائل : كان أهل الحق كارهين [ لقتله [7]
لكن سكتوا خوفا وتقية
[8] على أنفسهم ، لكان [9]
هذا أقرب إلى الحق ، ] [10]
لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه ، بخلاف من يريد مبايعة الأئمة [11]
، فإنه لا يخيف المخالف ، كما يخيف [12]
من يريد قتله ، فإن المريدين [13]
للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة .
فهذا لو قدر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله ، فكيف وجمهورهم أنكروا [14]
قتله ، ودافع عنه من دافع في بيته ، كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهما ؟ .
وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة [ ص: 325 ] علي وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك [15]
، فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة [16] .
، وسعد قد علم سبب تخلفه ، والله يغفر له ويرضى عنه . وكان رجلا صالحا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة ، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبي رأس المنافقين ، [ قالت ] [17]
: " وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته [18]
الحمية "
[19] .
وقد قلنا غير مرة : إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها ، أو تمحوها حسناته ، أو تكفر عنه بالمصائب ، أو بغير ذلك
[20] ; فإن المؤمن [21]
، إذا أذنب كان لدفع عقوبة [ النار ] عنه [22]
عشرة أسباب : ثلاثة منه ، وثلاثة من الناس ، وأربعة يبتديها الله [23]
: التوبة ، والاستغفار ، والحسنات الماحية ، ودعاء المؤمنين له
[24] ، وإهداؤهم العمل الصالح له ، وشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - والمصائب [ ص: 326 ] المكفرة في الدنيا ، وفي البرزخ ، وفي عرصات القيامة ، ومغفرة الله له بفضل رحمته .
والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم ، فكيف يدعي الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل [25]
هذا الإجماع ؟ بل من المعلوم أن الذين تخلفوا عن القتال مع علي من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا
[26] على قتل عثمان ; فإن الناس كانوا في زمن علي على ثلاثة أصناف : صنف قاتلوا معه ، وصنف قاتلوه ، وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه . وأكثر السابقين الأولين كانوا من هذا الصنف ، ولو لم يكن تخلف عنه إلا من قاتل مع معاوية - رضي الله عنه - فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه ، وهم أضعاف الذين قتلوا [27]
عثمان أضعافا مضاعفة ، والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع علي . فإن كان قول القائل : إن الناس أجمعوا [28]
على قتال علي باطلا ، فقوله : إنهم أجمعوا [29] على قتل عثمان أبطل وأبطل .
وإن جاز أن يقال : إنهم أجمعوا على قتل عثمان ، لكون ذلك وقع في العالم ولم يدفع . فقول القائل : إنهم أجمعوا على قتال علي [ أيضا ] [30]
والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز ; فإن هذا وقع [31]
في العالم ولم يدفع [ أيضا ] [32]
.
[ ص: 327 ] وإن قيل : إن [33]
الذين كانوا مع علي لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له ، وجمعهم [34]
عليه ، ولا دفعهم عن قتاله ، فعجزوا عن ذلك .
قيل : والذين كانوا مع عثمان لما حصر لم يمكنهم أيضا [35]
دفع القتال عنه .
وإن قيل : بل أصحاب علي فرطوا وتخاذلوا ، حتى عجزوا [36]
عن دفع القتال ، أو قهر الذين قاتلوه ص : قتلوه .
أو جمع الناس عليه .
قيل : والذين كانوا مع عثمان [ فرطوا وتخاذلوا
[37] حتى تمكن منه أولئك . ثم دعوى المدعي الإجماع على قتل عثمان ]
[38] مع ظهور الإنكار [ من ] جماهير الإنكار
[39] الأمة له وقيامهم [40]
في الانتصار له والانتقام ممن قتله - أظهر كذبا من دعوى المدعي إجماع الأئمة على قتل الحسين - رضي الله عنه - .
فلو قال قائل : إن الحسين قتل بإجماع الناس ، لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد من ذلك ، لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدعي للإجماع [41]
على قتل عثمان ; فإن الحسين - رضي الله عنه - لم يعظم إنكار [ ص: 328 ] الأمة لقتله ، كما عظم إنكارهم لقتل عثمان ، ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت
[42] لعثمان ، ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه ، ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان ، ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان ; فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة علي وطلحة والزبير ، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته ، بل لم يشهر في الأمة سيفا ولا قتل على ولايته أحدا [43]
، وكان يغزو بالمسلمين الكفار بالسيف ، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفار ، مكفوفا عن أهل القبلة ، ثم إنه طلب قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعا عن نفسه حتى قتل ، ولا ريب أن هذا أعظم أجرا ، وقتله [44]
أعظم إثما ، ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ، ولم يتمكن من ذلك
[45]
أعوان الذين طلب أخذ الأمر منهم ، فقاتل عن نفسه حتى قتل .
ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره ، وعثمان ترك القتال دفعا عن ولايته ، فكان حاله أفضل من حال الحسين ، وقتله أشنع من قتل الحسين . كما أن الحسن - رضي الله عنه - لما لم يقاتل على الأمر ، بل أصلح بين الأمة بتركه القتال [46]
، [ ص: 329 ] مدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال : " إن ابني هذا سيد ، [47]
وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [48]
.
والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام ، والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد [ الثقفي ] [49]
وأعوانه . ولا يشك عاقل أن معاوية - رضي الله عنه - خير من المختار ; فإن المختار كذاب ادعى النبوة . وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يكون في ثقيف كذاب ومبير " [50]
فالكذاب هو المختار ، والمبير هو الحجاج بن يوسف . وهذا المختار كان أبوه رجلا صالحا ، وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيدا في حرب المجوس ، وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر امرأة صالحة ، وكان المختار رجل سوء .


