وأما قوله : " إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم " [1]  . 
 [ ص: 121 ] فيقال : أولا : جميع المسلمين يعتقدون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن ، وهو المختص بالقدم والأزلية   . 
ثم يقال : ثانيا : الذي جاء به الكتاب والسنة هو توحيد الإلهية  [2] ، فلا إله إلا هو ، فهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ، كما قال تعالى : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم   ) [ سورة البقرة : 163 ] ، وقال تعالى [3]  : ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد   ) [ سورة النحل : 51 ] ، وقال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون   ) [ سورة الأنبياء : 25 ] . 
ومثل هذا في القرآن كثير ، كقوله تعالى : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله   ) [ سورة محمد : 19 ] ، وقوله : ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون   ) [ سورة الصافات : 35 ] . 
وبالجملة فهذا أول ما دعا إليه الرسول [ وآخره ] [4]  ; حيث قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا [5] لا إله إلا الله وإني رسول الله  " [6]  . 
 [ ص: 122 ] وقال لعمه أبي طالب   : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله  " 
[7] وقال : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة  " [8]  . 
وقال : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله  " [9]  . 
وكل هذه الأحاديث في الصحاح . 
 [ ص: 123 ] وهذا من أظهر ما يعلم [ بالاضطرار ] [10] من دين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو توحيد الإلهية : أنه لا إله إلا الله  [11]  . 
وأما كون القديم الأزلي واحدا ، فهذا اللفظ لا يوجد لا في كتاب [ الله ] ولا في سنة [ نبيه ] [12] ، بل [13] ولا جاء اسم " القديم "  في أسماء الله تعالى ، وإن كان من أسمائه " الأول " . 
والأقوال نوعان : فما كان منصوصا في الكتاب [ والسنة ] [14] ، وجب الإقرار به على كل مسلم ، وما لم يكن له أصل في النص والإجماع ، لم يجب قبوله ولا رده حتى يعرف معناه . 
فقول القائل : القديم الأزلي واحد ، وإن الله مخصوص بالأزلية والقدم ، لفظ مجمل . فإن أراد به أن الله بما يستحقه من صفاته اللازمة له هو القديم الأزلي دون مخلوقاته ، فهذا حق . ولكن هذا مذهب أهل السنة والجماعة . 
وإن أراد به أن القديم الأزلي هو الذات التي لا صفات لها : لا حياة \ 8 11 ) [15] ولا علم ولا قدرة ; لأنه لو كان لها صفات [16] لكانت قد شاركتها في القدم ، ولكانت إلها مثلها . 
 [ ص: 124 ]  [ فهذا الاسم هو اسم للرب [17] الحي العليم القدير ، ويمتنع حي لا حياة له ، وعليم لا علم له ، وقدير لا قدرة له ، كما يمتنع مثل ذلك في نظائره . 
وإذا قال القائل : صفاته زائدة على ذاته ، فالمراد أنها زائدة على ما أثبته النفاة ، لا أن في نفس الأمر ذاتا مجردة عن الصفات وصفات زائدة عليها ، فإن هذا باطل   . 
ومن حكى عن أهل السنة أنهم يثبتون مع الله ذواتا قديمة بقدمه ، وأنه مفتقر إلى تلك الذوات ، فقد كذب عليهم . فإن للنظار في هذا المقام أربعة أقوال : ثبوت الصفات ، وثبوت الأحوال ، ونفيهما جميعا ، وثبوت الأحوال دون الصفات 
[18] 
 [ ص: 125 ] فالأول : قول جمهور نظار المثبتة الصفاتية ، يقولون : إنه عالم بعلمه ، وقادر بقدرته ، وعلمه نفس عالميته ، وقدرته نفس قادريته . 
وعقلاء النفاة كأبي الحسين البصري  [19] وغيره يسلمون أن كونه حيا ليس هو كونه عالما ، وكونه عالما ليس هو كونه قادرا ، وكذلك مثبتة الأحوال منهم [20] ، وهذا بعينه هو مذهب جمهور المثبتة للصفات دون الأحوال . 
ولكن من أثبت الأحوال مع الصفات ، كالقاضي أبي بكر  والقاضي  [ ص: 126 ] أبي يعلى  وأبي المعالي  في أول قوله [21] ، فهؤلاء يتوجه رد النفاة إليهم [22]  . 
وأما من نفى الصفات والأحوال جميعا ، كأبي علي  وغيره من المعتزلة  ، فهؤلاء يسلمون ثبوت الأسماء والأحكام ، فيقولون : نقول : إنه حي عليم قدير ، فيخبر عنه بذلك ويحكم بذلك ونسميه بذلك . 
فإذا قالوا لبعض الصفاتية : أنتم توافقون على أنه خالق عادل ، وإن لم يقم بذاته خلق وعدل ، فكذلك حي عليم قدير . 
قيل : موافقة هؤلاء لكم لا تدل على صحة قولكم ، فالسلف والأئمة وجمهور المثبتة يخالفونكم جميعا ، ويقولون : إنه يقوم بذاته أفعاله سبحانه وتعالى . 
ثم هذه الأسماء دلت على خلق ورزق ، كما دل متكلم ومريد على كلام وإرادة ، ولكن هؤلاء النفاة جعلوا المتكلم والمريد والخالق والعادل يدل على معان منفصلة عنه ، وجعلوا الحي والعليم والقدير لا تدل على معان لا قائمة به ولا منفصلة عنه ، وجعلوا كل ما وصف الرب به نفسه من كلامه ومشيئته وحبه وبغضه ورضاه وغضبه إنما هي مخلوقات منفصلة عنه ، فجعلوه موصوفا بما هو منفصل عنه ، فخالفوا صريح العقل والشرع واللغة . 
 [ ص: 127 ] فإن العقل الصريح يحكم بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ، فالمحل الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحركا أسود أبيض لا غيره ، وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضا ، هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره ، وما لم يقم به الصفة لا يتصف بها ، فما لم يقم به كلام وإرادة وحركة وسواد وفعل ، لا يقال له : متكلم ولا مريد ولا متحرك [ ولا أسود ] [23] ولا فاعل ، وأما إذا لم يكن هناك معنى يتصف به ، فلا يسمى بأسماء المعاني . 
وهؤلاء سموه حيا عالما قادرا ، مع أنه عندهم لا حياة له ولا علم ولا قدرة ، وسموه مريدا متكلما مع أن الإرادة والكلام قائم بغيره . وكذلك من سماه خالقا فاعلا ، مع أنه لم يقم به خلق ولا فعل ، فقوله من جنس قولهم . 
ونصوص الكتاب والسنة قد أثبتت اتصافه بالصفات القائمة به  ، واللغة توجب أن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه ، فيوجب إذا صدق اسم الفاعل والصفة المشبهة  ، أن يصدق مسمى المصدر ، فإذا قيل : قائم وقاعد ، كان ذلك مستلزما للقيام والقعود ، وكذلك إذا قيل : فاعل وخالق ، كان ذلك مستلزما للفعل والخلق ، وكذلك إذا قيل : متكلم ومريد ، كان ذلك مستلزما للكلام والإرادة ، وكذلك إذا قيل : حي عالم قادر ، كان ذلك مستلزما للحياة والعلم والقدرة . 
ومن نفى قيام الأفعال ، وقال : لو كان خالقا بخلق ، لكان إن كان  [ ص: 128 ] قديما لزم قدم المخلوق ، وإن كان حادثا لزم أن يكون له خلق آخر ، فيلزم التسلسل ، ويلزم قيام الحوادث   . 
قد أجابه الناس بأجوبة متعددة ، كل على أصله : فطائفة قالت بقدم الخلق دون المخلوق ، وعارضوه بالإرادة ، فإنه يقول : إنها قديمة مع أن المراد محدث . قالوا : فكذلك الخلق ، وهذا جواب كثير من الحنفية والحنبلية والصوفية  وأهل الحديث وغيرهم . 
وطائفة قالت : بل الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر ، كما أن المخلوق عنده كله لا يفتقر إلى خلق ، فإذا لم يفتقر شيء من الحوادث إلى خلق عنده ، فأن [24] لا يفتقر الخلق الذي به خلق المخلوق إلى خلق أولى ، وهذا جواب كثير من المعتزلة  والكرامية  وأهل الحديث والصوفية  وغيرهم . 
ثم من هؤلاء من يقول : الخلق قائم به . ومنهم من يقول : قائم بالمخلوق ، ومنهم من يقول : قائم لا في محل ، كما يقول البصريون من المعتزلة  في الإرادة . 
وطائفة التزمت التسلسل ، ثم هؤلاء صنفان : منهم من قال بوجود معان لا نهاية لها في آن واحد ، وهذا قول ابن عباد  [25] وأصحابه . 
 [ ص: 129 ] ومنهم من قال : بل تكون شيئا بعد شيء ، وهو قول كثير من أئمة الحديث والسنة وأئمة الفلاسفة   . 
وأما التسلسل فمن الناس من لم يلتزمه ، وقال : كما أنه يجوز عندكم حوادث منفصلة لا ابتداء لها ، فكذلك يجوز قيام حوادث بذاته لا ابتداء لها ، وهذا قول كثير من الكرامية  والمرجئة  والهشامية  وغيرهم . 
ومنهم من قال : بل التسلسل جائز في الآثار دون المؤثرات ، والتزم أنه يقوم بذاته ما لا يتناهى شيئا بعد شيء ، ويقول : إنه لم يزل متكلما بمشيئته ولا نهاية لكلماته ، وهذا قول أئمة الحديث وكثير من النظار . 
والكلام على قيام الأمور الاختيارية بذاته مبسوط في موضع آخر . 
( 1 فهذا قول المعتزلة  والشيعة  الموافقين لهم ، وهو قول باطل ; لأن صفة الإله لا يجب أن تكون إلها ، كما أن صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا 1 ) [26]  . 
 [ ص: 130 ] وإذا كانت صفة النبي المحدث ] [27] موافقة [28] له في الحدوث ، لم يلزم أن تكون نبيا مثله ، فكذلك صفة الرب اللازمة له إذا كانت قديمة بقدمه لم يلزم أن تكون إلها مثله . 
فهؤلاء مذهبهم [29] نفي صفات الكمال [30] اللازمة لذاته ، وشبهتهم التي أشار إليها [31] ، أنها لو كانت قديمة لكان القديم أكثر من واحد ، كما يقول  ابن سينا  وأمثاله . 
وأخذ ذلك  ابن سينا  وأمثاله من المتفلسفة  عن المعتزلة  ، فقالوا [32]  : لو كان له صفة واجبة [33] لكان الواجب أكثر من واحد ، وهذا تلبيس ، فإنهم إن أرادوا أن يكون الإله القديم ، أو الإله الواجب ، أكثر من واحد ، فالتلازم [34] باطل ، فليس يجب أن تكون صفة الإله إلها ، ولا صفة الإنسان إنسانا ، ولا صفة النبي نبيا ، [ ولا صفة الحيوان حيوانا ] [35]  . 
وإن أرادوا أن الصفة توصف بالقدم ( * كما يوصف الموصوف بالقدم ، فهو كقول [36] القائل : توصف صفة المحدث بالحدوث * ) [37] ، كما يوصف الموصوف بالحدوث . 
 [ ص: 131 ] وكذلك إذا قيل : توصف بالوجوب ( 1 كما يوصف الموصوف بالوجوب 1 ) [38] ، فليس المراد أنها [39]  : توصف بوجوب أو قدم أو حدوث [40] على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكن المراد أنها [41] قديمة واجبة بقدوم الموصوف ووجوبه ، إذا عني بالواجب ما لا فاعل له ، وعني بالقديم [42] ما لا أول له ، وهذا حق لا محذور فيه . 
[ وقد بسط الكلام على هذا بسطا مستوفى في مواضع ، بين ما في لفظ " واجب الوجود " و " القديم " من الإجمال ، وشبهة نفاة الصفات ، وهو لم يذكر هنا إلا شيئا مختصرا ، قد ذكرنا ما يناسب هذا الموضع . 
وبينا في موضع آخر أن لفظ " القديم " و " واجب الوجود " فيه إجمال . فإذا أريد بالقديم القائم بنفسه ، أو الفاعل القديم ، أو الرب القديم ، ونحو ذلك ، فالصفة ليست قديمة بهذا الاعتبار ، بل هي صفة القديم . وإذا أريد مالا ابتداء له ، ولم يسبقه عدم مطلقا فالصفة قديمة . 
وكذلك لفظ " واجب الوجود " إن أريد به القائم بنفسه الموجود بنفسه ، فالصفة ليست واجبة ، بل هي صفة واجب الوجود ، وإن أريد ما لا فاعل له ، أو ما ليس له علة فاعلة ، فالصفة واجبة الوجود ، وإن أريد به مالا تعلق له بغيره ، فليس في الوجود واجب الوجود بهذا الاعتبار ، فإن  [ ص: 132 ] البارئ تعالى خالق لكل ما سواه ، فله تعلق [43] بمخلوقاته ، وذاته ملازمة لصفاته ، وصفاته ملازمة لذاته ، وكل من صفاته اللازمة ملازمة لصفته الأخرى . 
وبينا أن واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات ، والقديم الذي دلت عليه المحدثات ، الذي هو الخالق الموجود بنفسه ، الذي لم يزل ولا يزال ويمتنع عدمه ، فإن تسمية الرب واجبا بذاته وجعل ما سواه ممكنا ، ليس هو قول أرسطو  وقدماء الفلاسفة  ، ولكن كانوا يسمونه مبدءا وعلة ، ويثبتونه من جهة الحركة الفلكية ، فيقولون : إن الفلك يتحرك للتشبه به . 
فركب ابن سينا  وأمثاله مذهبا من قول أولئك وقول المعتزلة  ، فلما قالت المعتزلة   : الموجود ينقسم إلى قديم وحادث ، وإن القديم لا صفة له ، قال هؤلاء : إنه ينقسم إلى واجب وممكن ، والواجب لا صفة له ، ولما قال أولئك : يمتنع تعدد القديم ، قال هؤلاء : يمتنع تعدد الواجب ] [44]  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					