ولما كان من متعلقات الذنوب  التوبة   ، وكانت واجبة على كل من تلبس بذنب ؛ ذكر ذلك بقوله : ( ( وواجب ) ) وجوب لزوم لا بد منه ( ( عليه ) ) أي المذنب ( ( أن يتوبا ) ) بألف الإطلاق للوزن أي أن يرجع ، فالتوبة أصل كل مقام ، ومفتاح كل حال ، فمن لا توبة له لا مقام له ولا حال ، وهي لغة الرجوع من شيء إلى آخر ، وقال الإمام  النووي     :  أصل التوبة لغة   الرجوع ، يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب وأناب رجع ، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الذنب . انتهى . فهي الرجوع عن الذنب بأن يقلع عنه ويندم عليه ويعزم على ألا يعود إليه ، ويرضي الآدمي عن ظلامته إن تعلقت به . وقال بعضهم : التوبة      [ ص: 372 ] الواجبة الرجوع عما كان مذموما في الشرع من ترك واجب أو فعل محرم إلى ما هو محمود في الشرع . قال  النووي     : أركانها ثلاثة :  الإقلاع   ،  والندم على فعل تلك المعصية   ،  والعزم على أن لا يعود إليها أبدا   ،  وأن لا يغرغر      . انتهى .  
فإن كانت المعصية لآدمي فلها ركن رابع وهو  التحلل من صاحب ذلك الحق      . وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم ، وقد فسرت الصحابة - رضي الله عنهم - كأميري المؤمنين  عمر  وعلي  ،   وابن مسعود  التوبة بالندم ، ومنهم من فسرها بالعزم على أن يعود ، وقد روي ذلك مرفوعا من وجه فيه ضعف ، لكن لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا ، وكذلك التابعون ومن بعدهم   كعمر بن عبد العزيز  ،  والحسن  وغيرهما .  
وفي قوله ( ( من كل ما ) ) أي شيء أو الذي ( ( جر ) ) أي قاد وجذب ( ( عليه ) ) أي المذنب ( ( حوبا ) ) أي إثما ، وفي القاموس : الحوب الإثم ، يقال حاب بكذا أثم حوبا ، ويضم ، والحوب الحزن والوحشة ، ويضم فيهما . وفي القاموس أيضا : الحوب بالضم الهلاك ، والبلاء ، والتحوب التوجع وترك الحوب ؛ كالتأثم .  
ومراد الناظم من ذلك : من كل ما جر عليه الهلاك والبلاء ؛ إشعارا بوجوب التوبة من كل ذنب كبير ، أو صغير ، وهذا مما اتفق عليه العلماء ، فإنهم اتفقوا على أن  التوبة من كل معصية - واجبة على الفور   ، لا يجوز تأخيرها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وأنها من مهمات الإسلام وقواعد الدين المتأكدة . ووجوبها عند أهل السنة بالشرع وعند  المعتزلة   بالعقل . وظاهر النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والآثار السلفية على أن  من تاب لله توبة نصوحا واجتمعت شروط التوبة في حقه ، أنه يقطع بقبول توبته كرما منه وفضلا      . وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع خلافا  للمعتزلة   ، أما في حق قبول توبة الكافر بالإسلام ، فهذه بالإجماع كما نقله غير واحد ، قال  النووي   في شرح  مسلم  وغيره : توبة الكافر من كفره قبولها مقطوع به ، وفي كلام  ابن عقيل  من أئمة علمائنا      [ ص: 373 ] ما يخالف ذلك ، فإنه قال : إنه لا يجب ويجوز ردها . انتهى . وأما قبول توبة المذنب النصوح بشرطها فقول الجمهور وكلام الإمام   ابن عبد البر  يدل على أنه إجماع ، ومن الناس من قال : لا يقطع بقبول التوبة ، بل يرجى ، وصاحبها تحت المشيئة ، منهم   إمام الحرمين     . قال  القرطبي     : من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا . نقله في الفتح وأقره .  
وإلى قبول التوبة فضلا وكرما أشار بقوله : ( ( ويقبل المولى ) ) الذي هو رب العالمين وخالق الخلق ، وباسط الرزق ذو الكرم الواسع ، والفضل العظيم ( ( بمحض ) ) أي خالص ( ( الفضل ) ) والكرم من غير وجوب عليه - تعالى - ولا إلزام ( ( من ) ) كل عبد مذنب تاب إلى الله توبة نصوحا بشروطها المذكورة من الندم ، والإقلاع ، والعزم أن لا يعود ، وأن يرد ما أمكن من المظالم من حقوق الآدميين ، أو يستحلهم مما أمكن ، فإذا اجتمعت الشروط قبلت التوبة فضلا من الله - تعالى ، ولا بد أن تكون من شخص مسلم ( ( غير عبد كافر ) ) بالله ورسوله ( ( منفصل ) ) عن الدين ، إما بردة ، أو كان كافرا أصليا ، فلا تقبل توبته من الذنوب ( ( ما لم يتب ) ) أي يرجع ( ( من كفره ) ) فيسلم ويقر لله بالوحدانية ولنبيه  محمد      - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ، ويقر ويذعن بجميع ما جاء به  محمد      - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بالكتاب وبما جاء به الكتاب فيتصف من بعد رجوعه عن الكفر ( ( بضده ) ) من الإسلام ، فإن كان مرتدا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة إيجابا وتحريما ؛ فيرجع عن إنكاره ذلك ، ويقر ويذعن حسب ما جاء به النبي الكريم وكلام الله القديم . وإن كان مشركا ، أو معتقدا أن لله شريكا يستقل بالنفع ، والضرر ، وعلم الغيب مما استأثر الله بعلمه ( ( فـ ) ) ـلا يقبل منه ما لم ( ( يرتجع عن شركه ) ) الذي كان متصفا به ( ( وصده ) ) أي إعراضه عن الدين واتباع سيد العالمين ؛ بأن يذعن وينقاد لشريعة خير العباد ؛ مسلما خاضعا مقبلا بقلبه وقالبه ، خالعا ما كان عليه من ترهاته ومطالبه ، فهذا يقبل إسلامه إجماعا . وأما المذنب فزعم بعض الناس أنه لا يقطع بقبول توبته مع استيفاء الشروط ، متعللا بقوله - تعالى - :  إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   ، فيجعل كل الذنوب تحت المشيئة ، وربما تعلقوا بمثل قوله - تعالى - :  ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم    [ ص: 374 ] وبقوله :  وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون   ، وبقوله  فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين   ، وبقوله :  وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم   ، والظاهر أن هذا في حق التائب ; لأن الاعتراف يقتضي الندم . وفي حديث  عائشة     - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "  إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه     " . والصحيح قول الجمهور : هذه الآيات لا تدل على عدم القطع ، فإن الكريم إذا أطمع لم يقطع من رجائه المطمع ، ومن هنا  قال   ابن عباس     - رضي الله عنهما - : إن " عسى " من الله واجبة     .  
نقله عنه  علي بن أبي طلحة     . وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ " عسى " أيضا ، فلم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به كما في قوله :  إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر   الآية ، وأما قوله - تعالى - :  ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   فإن التائب ممن يشاء أن يغفر له كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					