وللمفسرين في المراد بهذا الإيعاد ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم كانوا يوعدون من آمن بشعيب ، قاله ابن عباس ، والثاني : أنهم كانوا عشارين ، قاله السدي ، والثالث : أنهم كانوا يقطعون الطريق ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : وتصدون عن سبيل الله أي تصرفون عن دينه من آمن به وتبغونها عوجا أي تطلبون للسبيل عوجا أي زيفا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم يحتمل ثلاثة أشياء :
أحدها : كنتم فقراء فأغناكم ، وقليلا عددكم فكثركم ، وغير ذي مقدرة فأقدركم ، وكانوا مع كثرة أموالهم قد أغروا بالتطفيف .
وكان من جملة ما ردوا عليه أصلاتك تأمرك أي دينك وقراءتك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا المعنى : أو أن نترك أن نفعل .
وقرأ الضحاك بن قيس الفهري : ما نشاء فاستغنى عن الإضمار ، وقال سفيان الثوري : أمرهم بالزكاة فامتنعوا ، وقالوا : إنك لأنت الحليم الرشيد استهزاء به .
فخوفهم أخذات الأمم وقال لا يجرمنكم شقاقي أي لا تحملنكم عداوتكم إياي أن تعذبوا ، وكان أقرب الإهلاكات إليهم قوم لوط فقال : وما قوم لوط منكم ببعيد .
فقالوا : ما نفقه كثيرا مما تقول أي ما نعرف صحة ذلك وإنا لنراك فينا ضعيفا وكان قد ذهب بصره ، كذا يقول سعيد بن جبير ، وقال ابن المنادي : وهذا إن ثبت كان في آخر عمره لأنه لا يبعث نبي أعمى ، قال أبو روق : لم يبعث الله نبيا أعمى ولا من به زمانة ، قال ابن المنادي : وهذا القول أليط بالقلوب من قول سعيد بن جبير .
ولولا رهطك يعني عشيرتك لرجمناك أي لقتلناك بالرجم ، فقال لهم : أرهطي أعز عليكم من الله أي تراعون رهطي في ولا تراعون الله في واتخذتموه وراءكم ظهريا أي رميتم أمر الله وراء ظهوركم .
ثم كان آخر أمره أن قال : وارتقبوا إني معكم رقيب قال ابن عباس رضي الله عنهما : ارتقبوا [ ص: 174 ] العذاب فإني أرتقب الثواب ، قال محمد بن كعب : عذب أهل مدين بثلاثة أصناف : أخذتهم رجفة في ديارهم حتى خافوا أن تسقط عليهم ، فخرجوا منها فأصابهم حر شديد ، فبعث الله تعالى الظلة فنادوا : هلموا إلى الظل ، فدخلوا فيه فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم .
وهذا القول على أن أهل مدين أصحاب الظلة ، وإليه ذهب جماعة من العلماء فعلى هذا إنما حذف ذكر الأخ من سورة الشعراء تخفيفا .
وذهب مقاتل إلى أن أهل مدين لما هلكوا بعث شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة .
قال أبو الحسن بن المنادي : وكان أبو جاد وهواز وحطي وكلمون وسعفص وقريشات بن الأمحض بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم ملوكا ، وكان أبو جاد ملك مكة وما والاها من تهامة ، وكان هواز وحطي ملكي وج وهو الطائف ، وكان سعفص وقريشات ملكي مدين ، ثم خلفهم كلمون فكان عذاب يوم الظلة في ملكه ، فقالت حالفة بنت كلمون ترثيه :
كلمون هد ركني هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه الـــ
ـــحتف نار وسط ظله كونت نارا فأضحت
دارهم كالمضمحله
وقد قال قتادة : أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة والرجفة ، وأما أصحاب الأيكة فسلط عليهم الحر سبعة أيام ، ثم إن الله تعالى أرسل عليهم نارا فأكلتهم ، فذلك عذاب يوم الظلة .
ثم إن شعيبا زوج موسى ابنته ، ثم خرج إلى مكة فمات بها وكان عمره مائة وأربعين سنة ، ودفن في المسجد الحرام حيال الحجر الأسود .
واعلم أن الله تعالى عظم ذكر البخس في قصتهم وشدد فيه وأطنب في ذكره وأشار إلى التوحيد ، لينبهنا على ما نرتكبه فإذ قد عرفنا قبح الشرك لم نحتج إلى الإطناب في ذكره ، وكذلك عاب قوم لوط بالفاحشة وبالغ في ذكرها ، وكل ذلك لتخويفنا .
قال ابن عباس : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى : ويل للمطففين .
[ ص: 175 ] واعلم أنه خوف المطففين بذكر الويل لهم ثم قال : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون والمعنى : لو ظنوا البعث ما بخسوا يوم يقوم الناس لرب العالمين أي لأمر الجزاء .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه وقال كعب : يقفون ثلاثمائة عام .
أخبرنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن المذهب ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا سفيان ، عن العلاء ، عن أبيه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاما فسأله : كيف تبيع ؟ فأخبره ، فأوحى الله تعالى إليه : أدخل يدك فيه ، فأدخل يده فإذا هو مبلول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من غش .
وقد روينا عن محمد بن واسع أنه رئي يعرض حمارا له على البيع فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه .
وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال من حلال أم حرام .
وفي الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فقال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه .


