وقد احتج من يذهب إلى قول كل واحد منهما لقوله الذي حكيناه في هذا الباب بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي كتبه  أبو بكر  الصديق - رضي الله عنه - لأنس  لما ولاه :  " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بينهما بالسوية .  
 629  - حدثنا بذلك إبراهيم ،  قال : حدثنا محمد ،  قال : حدثنا أبي ، عن ثمامة ،  عن  أنس ،  أن  أبا بكر  لما استخلف ، وجه أنسا  إلى البحرين ،  فكتب له هذا الكتاب : " هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله - عز وجل - بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطها " .  
فذكر فيها هذا الكلام الذي ذكرناه . 
 630  - حدثنا  الربيع المرادي ،  قال : حدثنا أسد ،  قال : حدثنا حماد ،  قال : أخذت من ثمامة  كتابا زعم أن  أبا بكر ،  كتبه لأنس  حيث بعثه مصدقا وعليه خاتم  أبي بكر  وخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتبه له ، فإذا فيه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله - عز وجل - بها رسوله  صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المسلمين فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطها ثم ذكر هذا الكلام أيضا . 
 631  - حدثنا  أبو بكرة ،  حدثنا  ابن عمر ،  قال : حدثنا  حماد بن سلمة ،  قال : أرسلني  ثابت  إلى ثمامة  ليبعث إليه بكتاب  أبي بكر  الذي كتبه لأنس  حيث بعثه مصدقا ، فدفعه إليه ، ثم ذكر مثله . 
 632  - حدثنا يونس ،  قال : أخبرنا  ابن وهب ،  قال : أخبرني  ابن لهيعة ،  عن عمارة ،  عن  عبد الله بن أبي بكر بن حزم ،  أخبره أن هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو  في الصدقة ، " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، ولا تخرج في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ،  ولا تيس إلا أن يشاء المصدق ، وما كان من خليطين فإنهما  [ ص: 315 ] يتراجعان بينهما بالسوية " . 
 633  - حدثنا يونس ،  قال : أخبرنا  ابن وهب ،  قال : أخبرني يونس ،  عن  ابن شهاب ،  عن سالم ،   وعبد الله  ابني  ابن عمر ،  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو ذلك . 
أفلا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أن لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ،  وأن يتراجع الخليطان بينهما بالسوية ، فاستدلا بذلك يعني :  مالكا ،   والشافعي  ، على أن حكم الخليطين في المواشي خلاف حكمهما لو كانا منفردين غير خليطين . 
يقال لهما : قد قبل العلماء جميعا هذا الكلام الذي ذكرتموه في الخليطين جميعا ، وصححوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه مختلف في تأويله . 
فقال بعضهم : أما قوله : " لا يفرق بين مجتمع " ، فأن يكون للرجل الواحد مائة شاة وعشرون شاة ، ففيها شاة واحدة ، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ، لتكون فيها ثلاث شياه فقد فرق بين مجتمع ، فذلك حرام عليه . 
وأما قوله : " ولا يجمع بين متفرق " ، فالرجلان يكون لكل واحد منهما أربعون ، فتكون عليهما شاتان فيجمعانها لتكون عليهما شاة واحدة ، فإذا فعلا ذلك فقد جمعا بين متفرق ، فذلك حرام عليهما . 
وذهب قائلوا هذا القول في تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خشية الصدقة " ، إلى أن الخشية في هذا : هي في كثرة الصدقة في أرباب الماشية ، وفي قلتها من المصدق ، وممن قال هذا القول  أبو حنيفة ،  حدثناه بذلك سليمان ،  عن أبيه ، عن محمد ،  عن  أبي يوسف ،  عن  أبي حنيفة  غير ما ذكرناه في تأويل " خشية الصدقة " ، فإن ذلك مما لم يحكه لنا سليمان ،  ولم يحك سليمان  فيما حكى لنا مما ذكرنا اختلافا بين  أبي حنيفة ،   وأبي يوسف ،  ومحمد .  
وأما أصحاب الإملاء منهم  بشر بن الوليد الكندي ،  فحكوا عن  أبي يوسف  أنه أملا عليهم في تأويل هذا الحديث كما حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد ،  قال : حدثنا  بشر بن الوليد ،  قال : سمعت  أبا يوسف ،  قال : هو أن يكون للرجل ثمانون شاة ، فإذا جاءه المصدق ، قال : هي بيني وبين إخوتي ، لكل واحد منا عشرون  فلا زكاة فيها ، أو يكون له أربعون  [ ص: 316 ] ولأخيه أربعون ولأخ له آخر أربعون ، فتكون جملتها مائة وعشرين شاة ، فيكون الذي يجب عليهم فيها ثلاث شياه ، فإذا جاءها المصدق جمعها ، فقال : هذه كلها لي ، والذي علي فيها شاة واحدة ، فهذه خشية الصدقة ؛ لأن الذي تؤخذ منه الصدقة هو الذي يخشى الصدقة . 
وأما  مالك  رحمه الله فروي عنه ما حدثنا يونس ،  قال : أخبرنا  ابن وهب ،  قال أخبرني  مالك ،  قال : أما " لا يفرق بين مجتمع " فأن يكون الخليطان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة ، فيكون عليهما في ذلك ثلاث شياه ، فإذا أظلهم المصدق فرقوا غنمهما ، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة ، فنهي عن ذلك وقيل : لا يفرق بين مجتمع ، وأما لا يجمع بين متفرق ، فأن ينطلق الثلاثة الذين لكل واحد منهم أربعون شاة قد وجب على كل واحد منهم في غنمه الصدقة ، فإذا أظلهم المصدق جمعوا جميعا ، لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة . 
قال  مالك  رحمه الله : فهذا الذي سمعت في ذلك . 
وأما  الشافعي  فروي عنه في ذلك ما حكاه لنا  المزني ،  أنه قال : معنى  " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة " : لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة ، وإنما عليهم شاة ، لأنهم إذا افترقت كان فيها ثلاث شياه ، ولا يجمع بين متفرق : فرجل له مائة شاة وشاة ، ورجل مائة شاة ، فإذا تركنا مفترقين ففيها شاتان ، وإذا جمعنا ففيها ثلاث شياه ، فالخشية خشية الساعي أن تقل الصدقة ، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة ، فأمر أن نقر كلا على حاله . 
فهذه أقوال قد رويت عن أهل العلم في تأويل  " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وكلهم فقد قبل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم وخالف أصحابه في تأويله . 
ولما اختلفوا في تأويل ذلك ولم نجد فيما اختلفوا فيه نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع اختلافهم فيه ، وكان القياس في ذلك يدل على ما قال بعضهم في أن لا حكم للمراح والدلو ولا للفحل ، وأن الحكم في ذلك للأملاك لا لما سواها ، كان قول من ذهب إلى ذلك أولى من قول من خالفه . 
وأما قوله : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " ، فإن  أبا حنيفة ،  وأبا يوسف ،  ومحمدا ،  كانوا يقولون تأويل ذلك : أن يكون بين الرجلين مائة وعشرون شاة سائمة شائعة بينهما غير مقسومة لواحد منهما ثلثاها وللآخر منهما ثلثها فيحول عليها الحول ، وتجب فيها الزكاة ، فتكون فيها شاتان على كل واحد منهما شاة ، فلا يكون على المصدق أن  [ ص: 317 ] يقسم الغنم بينهما قبل أن يأخذ منهما زكاتهما ، حتى يكون لصاحب الثمانين منها ثمانون شاة بأعيانها ، فيأخذ منها شاة ، وحتى يكون لصاحب الأربعين الشاة منها أربعون شاة بأعيانها فيأخذ منها شاة ، إنما عليه أن يأخذ منها شاتين من جملتها ، فيكون قد أخذ من غنم صاحب الثمانين ثلثيهما وهو شاة وثلث وأخذ من غنم صاحب الأربعين ثلثهما وهو ثلثا شاة ، والذي كان وجب على صاحب الثمانين شاة منها شاة ، والذي كان وجب على صاحب الأربعين شاة منهما شاة ، فرجع صاحب الثمانين على صاحب الأربعين بالثلث الشاة الذي أخذه المصدق ، فضلا عما كان وجب عليه ، لأنه إنما أخذه منه عن صاحبه مما كان وجب على صاحبه ، فإذا تراجعا ذلك كذلك رجعت الغنم بينهما إلى أن صار لصاحب الثمانين منها تسع وسبعون شاة ، وهذا الباقي له بعد الذي كان وجب عليه من الزكاة ، ولصاحب الأربعين تسع وثلاثون شاة وهو الباقي له بعد الذي كان وجب عليه من الزكاة . 
قالوا : فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " . 
وأما مذهب مخالفيهم في ذلك فإن الخليطين المعينين في هذا هما الخليطان بالمراح ، والفحول ، والراعي ، لا بأعيان الغنم ، ويكونان مع ذلك يريحان ، ويسرحان ، ويحلبان معا ، فيكونان بذلك خليطين ، لا باختلاط الغنمين ، ويحضر المصدق فيصدق الغنم بما يجب عليها من الصدقة ، ويأخذ من غنم أحدهما ، فرجع المأخوذ ذلك من غنمه على صاحبه في غنمه الذي أخذه المصدق مما كان وجب على صاحبه . 
قالوا : فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :  " وما كان من خليطين يتراجعان بينهما بالسوية "  . قد دخل فيه عند هؤلاء القائلين : الخليطان بالمراح وبما سواه مما ذكرنا ، غير اختلاط الغنم ، كان اختلاط الغنم في ذلك أولى أن يكون الشريكان فيه خليطين ، لأن الخلطة بها لا ينفرد فيه واحد من الشريكين ، أولى مما ينفرد به واحد من الشريكين عن صاحبه ، وإذا ثبت ذلك كان التأويل الأول أولى بالحديث من التأويل الثاني . 
				
						
						
