المسألة الخامسة  
يجوز  تخصيص عموم القرآن بالسنة   ، أما إذا كانت السنة متواترة فلم أعرف فيه خلافا ، ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي .  
وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد ، فمذهب الأئمة الأربعة جوازه ، ومن الناس من منع ذلك مطلقا ، ومنهم من فصل ، وهؤلاء اختلفوا فذهب   عيسى بن أبان  إلى أنه إن كان قد خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد ، وإلا فلا .  
وذهب  الكرخي  إلى أنه إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا ، وذهب  القاضي أبو بكر  إلى الوقف .  
والمختار مذهب الأئمة ، ودليله العقل والنقل .  
أما النقل فهو أن الصحابة خصوا قوله - تعالى - : (  وأحل لكم ما وراء ذلكم      ) بما رواه   أبو هريرة  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : "  لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها     "  [1]    .  
وخصوا قوله - تعالى - : (  يوصيكم الله في أولادكم      ) الآية ، بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "  لا يرث القاتل  [2] ، ولا يرث الكافر من المسلم ، ولا المسلم من الكافر     " .  [3] 
 [ ص: 323 ] وبما رواه  أبو بكر  من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "  نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة     "  [4] ، وخصوا قوله - تعالى - : (  كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك      ) بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه جعل للجدة السدس  [5] ، وخصوا قوله - تعالى - : (  وأحل الله البيع      ) بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه  نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين     .  [6] 
، وخصوا قوله - تعالى - : (  والسارق والسارقة      ) وأخرجوا منه ما دون النصاب بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "  لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا     "  [7] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( اقتلوا المشركين ) بإخراج المجوس منه بما روي عنه - عليه السلام - أنه قال : "  سنوا بهم سنة أهل الكتاب     " إلى غير ذلك من الصور المتعددة ، ولم يوجد لما فعلوه نكير فكان ذلك إجماعا .  
والوقوع دليل الجواز وزيادة .  
وأما المعقول : فما ذكرناه فيما تقدم في تخصيص الكتاب بالكتاب .  
فإن قيل : ما ذكرتموه من التخصيص في الصور المذكورة لا نسلم أن تخصيصها كان بخبر الواحد ، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم : "  إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فردوه     " والخبر فيما نحن فيه مخالف للكتاب فكان مردودا .    [8]    .  
 [ ص: 324 ] قولهم : إن الصحابة أجمعوا على ذلك إن لم يصح فليس بحجة ، وإن صح فالتخصيص بإجماعهم عليه لا بخبر الواحد .  
كيف وإنه لا إجماع على ذلك ؟      [ ص: 325 ] ويدل عليه ما روي  عن   عمر بن الخطاب  أنه كذب   فاطمة بنت قيس  فيما روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، لما كان ذلك مخصصا لعموم قوله - تعالى - : (  أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم      ) وقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة  ؟  [9] 
وإن سلمنا الإجماع على أن التخصيص كان بخبر الواحد ، لكن ليس في ذلك ما يدل على أن قول الواحد بمجرده مخصص ، بل ربما قامت الحجة عندهم على صدقه وصحة قوله بقرائن وأدلة اقترنت بقوله فلا يكون مجرد إخباره حجة .  
وأما ما ذكرتموه من المعقول ، فنقول : خبر الواحد ، وإن كان نصا في مدلوله نظرا إلى متنه غير أن سنده مظنون محتمل للكذب بخلاف القرآن المتواتر ، فإنه قطعي السند وقطعي في دلالته على كل واحد من الآحاد الداخلة فيه لما بيناه في المسألة المتقدمة ، فلا يكون خبر الواحد واقعا في معارضته كما في النسخ .  
وإن سلمنا أن العموم ظني الدلالة بالنسبة إلى آحاده ، لكن متى إذا خص بدليل مقطوع على ما قاله   عيسى بن أبان  أو بدليل منفصل على ما قاله  الكرخي  أو قبل التخصيص ؟ الأول مسلم لكونه صار مجازا ظنيا ، والثاني ممنوع لبقائه على حقيقته ، وعند ذلك فيمتنع التخصيص بخبر الواحد مطلقا لترجيح العام عليه قبل التخصيص ، بكونه قاطعا في متنه وسنده .  
 [ ص: 326 ] وإن سلمنا أن دلالة العام بالنظر إلى متنه ظنية مطلقا غير أنه قطعي السند والخبر ، وإن كان قاطعا في متنه فظني في سنده فقد تقابلا وتعارضا ووجب التوقف على دليل خارج لعدم أولوية أحدهما كما قاله  القاضي أبو بكر     .  
والجواب قد بينا أن الصحابة أجمعوا على تخصيص العمومات بأخبار الآحاد حيث إنهم أضافوا التخصيص إليها من غير نكير فكان إجماعا .  
وما ذكروه من الخبر ، فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفا للقرآن ، وهو غير مسلم ، بل هو مبين للمراد منه فكان مقررا لا مخالفا ، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يفضي إلى تخصيص  [10] ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة ، فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف .  
قولهم : إن صح إجماع الصحابة فالتخصيص بإجماعهم لا بالخبر ليس كذلك ، فإن إجماعهم لم يكن على تخصيص تلك العمومات مطلقا ، بل على تخصيصها بأخبار الآحاد ، ومهما كان التخصيص بأخبار الآحاد مجمعا عليه فهو المطلوب .  
وأما ما ذكروه من تكذيب  عمر   لفاطمة بنت قيس  فلم يكن ذلك لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده ، بل لتردده في صدقها ولهذا قال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ؟ ولو كان خبر الواحد في ذلك مردودا مطلقا لما احتاج إلى هذا التعليل .  
قولهم : لم يكن إجماعهم على ذلك لمجرد خبر الواحد .  
قلنا : ونحن لا نقول بأن مجرد خبر الواحد يكون مقبولا ، بل إنما يقبل إذا كان مغلبا على الظن صدقه ، ومع ذلك فالأصل عدم اعتبار ما سواه في القبول .  
قولهم : إن سند الخبر ظني مسلم ، ولكن لا نسلم أن دلالة العموم على الآحاد الداخلة فيه قطعية ، لاحتماله للتخصيص بالنسبة إلى أي واحد منها قدر ، وسواء كان قد خص أو لم يكن على ما سبق بيانه .  
 [ ص: 327 ] وأما النسخ فلا نسلم امتناعه بخبر الواحد ، وبتقدير التسليم فلأن النسخ رفع للحكم بعد إثباته بخلاف التخصيص ؛ لأنه بيان لا رفع فلا يلزم مع ذلك من امتناع النسخ به امتناع التخصيص .  
وما ذكروه من السؤال الأخير في جهة التعارض ، فجوابه أن احتمال الضعف في خبر الواحد من جهة كذبه ، وفي العام من جهة جواز تخصيصه ، ولا يخفى أن احتمال الكذب في حق من ظهرت عدالته أبعد من احتمال التخصيص العام .  
ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصة ، وليس أكثر أخبار العدول كاذبة فكان العمل بالخبر أولى ، ولأنه لو عمل بعموم العام لزم إبطال العمل بالخبر مطلقا ، ولو عمل بالخبر لم يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقا لإمكان العمل به فيما سوى صورة التخصيص ، والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من تعطيل أحدهما ، ولأن العمل بالعام إبطال للخاص ، والعمل بالخاص بيان للعام لا إبطال له .  
ولا يخفى أن البيان أولى من الإبطال .  
				
						
						
